تحريم التسعير عند غلاء الأسعار وجواز منع التجار وتقييد حريتهم
جاءت الشريعة الإسلامية برعاية مصلحة الفرد والمجتمع ومنع الظلم والجور، ولذلك قررت الشريعة في أحكامها مبدأ الحرية وترك الناس يبيعون ويشترون بما يختارون من قيمة وما يرغبون من ثمن، وتركت مطلق الحرية للتجار في تحديد أسعار ما يبيعون من سلع وما يؤجرون من خدمات طالما أنها لا تشتمل على مخالفة لقواعد الشريعة الإسلامية، ولذلك جاء في الحديث الصحيح عند مسلم عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ''دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض''.
وتأكيدا لهذا المبدأ حرمت الشريعة الإسلامية التسعير حتى في حال غلاء الأسعار وارتفاعها ما دام أن السبب هو تقلبات العرض والطلب ولم يتأثر الأمر بجشع التجار وطمعهم، يؤيد ذلك ما جاء في الحديث الذي أخرجه أهل السنن عن أنس، قال: غلا السعرُ على عهدِ رسولِ الله، فقالوا: يا رسول الله، سعِّر لنا، فقال: ''إنَّ الله هو المسعِّر القابض الباسط الرزاق، وإني لأرجُو أن ألقَى رَبّي وليس أحدٌ يطلُبني بمظلمَةٍ في دمٍ ولا مالٍ '' فرفضه، وامتناعه عن التسعير مع غلاء الأسعار دليل على أن المخول بهذا الأمر منهي عن التسعير وأنه حرام.
إلا أن غلاء الأسعار بشكلها الفاحش له آثاره السيئة على المجتمعات فقد يعجز الفقير والمحتاج عن شراء ما لا غنى له عنه ويتحمل آخرون ديونا يعجزون عن أدائها وتؤدي كثرة الضغوط الاجتماعية والنفسية إلى أن أصحاب النفوس الضعيفة يلجأون للحصول على المال بطرق مشروعة وغير مشروعة وتنشأ الأنانية والبخل، ما يؤدي إلى تزعزع الأمن والاستقرار داخل المجتمع.
إن الشريعة الكاملة لا يمكن أن تطلق الحرية للتجار وأرباب السلع ليتحكموا في أسعارها دون قيد أو ضابط، ولذلك فإن أصحاب السلع إذا تعسفوا في استخدام الحرية ودخلوا في الطمع والجشع وتعدوا السعر المعقول إلى الفاحش الكثير بلا أسباب تستدعيه أو عوامل تقتضيه مما يرهق كواهل الفقراء والمحتاجين ويمنع الناس من شراء حاجاتهم اليومية، فإن الصحيح من أقوال أهل العلم جواز منع التجار وقيد حريتهم ووجوب حملهم على الطريق الصحيح الأمثل عن طريق التسعير الذي يتحقق به التوازن الاقتصادي ويحمى الضعفاء من طمع الأقوياء ويحصل العدل بين البائعين والمشترين، يؤيد هذا التسعير قاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وقاعدة يتَحمل الضررُ الخاص لدَفعِ ضرر عام.
وأنقل هنا مقولة لشيخ الإسلام ابن تيمية تأييدا لما سبق حيث قال ''السعر مِنه ما هو ظلمٌ لا يجوز، ومنه ما هو عَدل جائز، فإذا تضمَّن ظلمَ الناسِ وإكراهَهم بِغير حقٍّ على البيعِ بثمن لا يرضَونه أو منعهم مما أباحَه الله لهم فهو حرام، وإذا تضمَّن العدلَ بين الناس مثلَ إكراههم على ما يجِب عليهم من المعاوَضَة بثمن المثل ومَنعِهم مما يحرُم عليهم من أخذ زيادَةِ على عِوَض المثل فهو جائز، بل واجب''، وفي ذلك إشارة إلى أن ولي الأمر إذا أخَذ بالتَّسعير لمصلحَةِ المسلمين وأمَرَ أهلَ السوق ألا يبيعوا إلاَّ بسعر محدَّد بلا زيادةٍ ولا نقصان لم تجز مخالفتُه، ومن خالف استحقَّ التعزيرَ لمجاهرته ولي الأمر بالمخالفة.إن الواجب على المسلم الذي أنعم الله عليه بالمال والتجارة أن يكون عطوفا ذا شفقة وإحسان وألا يبالغ في التكسب ويغالي في الربح بل يراعي حقوق الأخوة الإسلامية وقبلها الإنسانية، وقد بشر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المسامح في المعاملة بقوله ''رحِم الله رجلاً سمحًا إذا باع وإذا اشتَرى وإذا اقتَضَى''.
إن إرخاص الأسعار على المسلِمين وعدم الإجحاف عليهم وتركَ استغلالهم لا يفعله إلا ذوو القلوبِ الرحيمة، التي امتَلأت عَدلاً وصِدقًا وتقوى وإحسانًا، وأولئك هُمُ الموعودون بالبركةِ في أرزاقهم والسعةِ في أموالهم والصِّحةِ في أبدانهِم والسعادة في نفوسهم.