الدولة الفلسطينية .. الاعتراف وممكناته وتحدياته وسبل استثماره
في سياق توجه السلطة الفلسطينية إلى الأمم المتحدة الجاري الآن للمطالبة بالاعتراف بدولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران (يونيو) 1967، فإن أسئلة كثيرة تطرح في هذا المجال، تطاول أهمية الخطوة وتبعاتها وتحياتها وسبل استثمارها، وعما إذا حشدت السلطة أسباب وممكنات تحقيق الاعتراف أو الفشل، وتحسبت جيدا للتداعيات الدولية المحتملة، خصوصا من طرف الولايات المتحدة وإسرائيل، ومعهما اللجنة الدولية الرباعية والاتحاد الأوروبي وغيرها.
ويسجل للرئيس محمود عباس إصراره على الذهاب بما عرف بـ''استحقاق أيلول''، على الرغم من الضغوط الأمريكية والإسرائيلية الهائلة، ومعهما ضغوطات بعض الدول الأوروبية واللجنة الرباعية، حيث حاول كل من المبعوثين الأمريكيين دينس وروس وديفيد هيل وممثل اللجنة الرباعية الدولية توني بلير، قبيل توجه الفلسطينيين إلى الأمم المتحدة، ثني الفلسطينيين عن القيام بخطوتهم، وقدموا بدائل لا ترتقي إلى طموحاتهم، فضلا عن التحذيرات الأمريكية والتهديدات الإسرائيلية من عواقب الذهاب إلى الأمم المتحدة. ومع ذلك يبقى القلق مشروعا من مساومات اللحظة الأخيرة، بما يعني الدخول في صفقة مع الأطراف الفاعلة على المسرح الدولي، مقابل التخلي عن طلب الاعتراف بدولة فلسطينية، أو القبول بصيغة اعتراف لا ترقى إلى مستوى الدولة ذات الاعتراف الأممي الحقيقي.
ممكنات الاعتراف الأممي
من الطبيعي أن تعارض إسرائيل حصول الفلسطينيين على أيّ شكل من أشكال الاعتراف الأممي بدولة فلسطينية، سواء أكانت تتمتع بعضوية كاملة في الأمم المتحدة أم عضوية ''دولة مراقب''، حيث تتطلب العضوية الكاملة دعم وموافقة دول مجلس الأمن، وهو أمر مستبعد؛ لأن الولايات المتحدة ستضغط على الدول الأعضاء في مجلس الأمن، وقد تستخدم حق النقض (الفيتو) ضد أي قرار بهذا الشأن، الأمر الذي سيؤدي حتما إلى زيادة عزلة إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية. لكن المرجح أن تتفادى السلطة الفلسطينية الفيتو الأمريكي، وتلجأ إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة للاعتراف بدولة فلسطينية، بوصفها ''دولة مراقب''.
ويجد طلب عضوية فلسطين إلى الأمم المتحدة ممكناته في توافر عناصره الكافية لتوصيفها على أنها دولة، وإبراز العناصر يتجسد في وجود الشعب الفلسطيني، بوصفه جماعة سكانية محدّدة، على الرغم من كون الشعب الفلسطيني شعبا مشتّتا؛ نظرا للحروب والمجازر الإسرائيلية التي ارتكبت ضده، وأفضت إلى إصابته بنكبات متتالية منذ عام 1948، وجعلت أغلبية الفلسطينيين العظمى، تسكن خارج وطنها الأصلي. إضافة إلى أن الشعب الفلسطيني له حكومة وسلطة فلسطينية، تمخضت عن اتفاقية أوسلو، وإلى أن الدولة الفلسطينية تتحدد بمنطقة جغرافية محددة بالأراضي الفلسطينية التي احتلتها إسرائيل في الخامس من حزيران (يونيو) عام 1967. كما تمتلك الدولة الفلسطينية القدرة على إقامة علاقات مع دول أخرى، بل تمتلك علاقات مع العديد من الدول، ونالت اعتراف معظم دول أمريكا اللاتينية، لكن هنالك خشية لدى العديد من فلسطينيي الشتات من أن توظف خطوة الاعتراف بالدولة الفلسطينية على حساب حقّ اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى أراضيهم التي هجّروا منها عام 1948 وما بعده. وهنا تبرز ضرورة التمييز ما بين مسألة الاعتراف بدولة فلسطين وسائر القضايا الأخرى، خصوصا قضية اللاجئين التي تمتلك مرجعيات قانونية حددتها قرارات الشرعية الدولية.
غير أن الخطوة الفلسطينية في التوجه إلى الأمم المتحدة، لنيل الاعتراف بدولة فلسطين، ذات دلالات واستحقاقات سياسية وقانونية قصيرة وبعيدة المدى، وأولها يتجسد في تدويل جديد على المستوى السياسي والقانوني، للقضية الفلسطينية، يترتب عليه القيام بخطوات عديدة، وينبغي استثمارها فلسطينيا على المستويات كافة. وعليه، تبدي إسرائيل قلقا كبيرا من حصول الفلسطينيين على مكانة دولة مراقب في الأمم المتحدة؛ لأن ذلك يمكّنها من الحصول على عضوية محكمة الجنايات الدولية، بما يعني ملاحقة إسرائيل في المحافل والهيئات الدولية على جرائمها ضد المدنيين الفلسطينيين؛ لذلك حاول توني بلير تسويق عرض للفلسطينيين يقضي بأن تمنح الأمم المتحدة امتيازات خاصة لما يشبه ''دويلة'' على الورق فقط، تمكنها من الحصول على عضوية عدد من أبرز الهيئات والمؤسسات التابعة للمنظمة الدولية، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو)، مع استبعاد عضويتها في هيئات الأمم المتحدة، التي يتمكن فيها الفلسطينيون من ملاحقة إسرائيل قضائيا بتهمة ارتكاب جرائم حرب. وفي السياق نفسه تكثف الولايات المتحدة واللجنة الرباعية الدولية جهودهما من أجل إيجاد ''صفقة'' تمكن الفلسطينيين من الحصول على مكانة ما في الأمم المتحدة، من دون الاعتراف الكامل. وقد تشمل الصفقة صدور بيان عن الرباعية، يتضمن مرجعية حدود عام 1967، وتحديد أفق زمني لإنهاء المفاوضات خلال فترة معينة، مقابل تأجيل أو إلغاء تقديم طلب العضوية والدخول في نفق المفاوضات العبثية مع إسرائيل. مع العلم أن خطوة السلطة الفلسطينية بطلب الحصول على عضوية كاملة أو ناقصة في الأمم المتحدة، يشير إلى أنّ المفاوضات الثنائية بين السلطة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية في إطار اتفاق أوسلو وصلت إلى طريق مسدود؛ نظرا لإصرار الطرف الإسرائيلي على عدم وقف الاستيطان، من خلال تمسّك رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بموقفه الرافض لتجميد الاستيطان في الضفّة الفلسطينية المحتلة، خاصة في القدس الشرقية، والرافض كذلك تقديم أية مبادرة سياسية، يمكنها أن تؤثّر في موقف السلطة الفلسطينية وتُثنيها عن التوجّه إلى الأمم المتحدة.
تحديات الاعتراف
يتخوف الساسة الإسرائيليون كثيرا من أن يفضي الاعتراف بالدولة الفلسطينية إلى تحرّر السلطة الفلسطينية من أسر المفاوضات الثنائية العبثية مع إسرائيل؛ إذ يمكن للاعتراف بدولة فلسطينية أن يفضي إلى زيادة استقلالية القرار الفلسطيني عن الطرف الإسرائيلي، وأن يسهم في تعزيز مكانة القضية الفلسطينية، ويدخلها في طور جديد، يتمثل في كونها دولة تحت الاحتلال من قبل دولة عضو في الأمم المتحدة، وليست مجرد قضية أراض ومناطق متنازع عليها، حسبما تصورها وتطرحها إسرائيل، وبما يمكن الدولة الفلسطينية من اللجوء إلى الأمم المتحدة للمطالبة بفرض عقوبات على إسرائيل، ووضعها في وضع مشابه لدولة جنوب إفريقيا خلال حقبة اعتبارها دولة عنصرية؛ لذلك واجهت إسرائيل - منذ البداية - قرار السلطة الفلسطينية بالذهاب إلى الأمم المتحدة بتهديدات عديدة، وتوعدت بعقابها وباتخاذ خطوات عديدة، بحجة أن قرارها يمثل خطوة ''أحادية الجانب''، ويتعارض مع اتفاقية أوسلو، وينسف المفاوضات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية.
وفي حال نجاح المسعى الفلسطيني في نيل الاعتراف الأممي، فإن إسرائيل ستلجأ إلى اتخاذ إجراءات تتمثل في التضييق المالي على السلطة الفلسطينية من خلال وقف تحويل أموال الضرائب الفلسطينية للسلطة، وتقييد حرية حركة قادة السلطة الفلسطينية واتخاذ خطوات لمحاصرة ومقاطعة السلطة الفلسطينية، وضم مناطق من الضفة الفلسطينية المحتلة بشكل رسمي إلى إسرائيل، وزيادة وتيرة الاستيطان، وغير ذلك من خطوات. لكن كل ذلك تتطلب موافقة الولايات المتحدة، التي تهدد قوى اليمين فيها بوقف المساعدات للسلطة الفلسطينية.
ولا شك في أنّ الدولة الفلسطينية ستواجه تحديات وقضايا وإشكاليات سياسية وقانونية عديدة، تتطلب وقوف جميع أطياف الشعب الفلسطيني معا، بما يعني إنهاء حالة الانقسام الفلسطيني، التي تعرقل تحقيق الاستقلال الوطني للشعب الفلسطيني. ولعل جملة التحديات ترتبط بمدى التزام السلطة الفلسطينية بمنظمة التحرير وتفعيل عملها، بوصفها الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، وبتقوية علاقة الدولة الفلسطينية وسلطتها مع فلسطينيي الشتات، وتعاملها مع حق العودة.
وهناك من الفلسطينيين من يرى أن السلطة الفلسطينية تتعامل مع مسألة الاعتراف بالدولة بوصفه تكتيكا، يهدف إلى تقوية موقفها وموقعها في عملية التفاوض مع الطرف الإسرائيلي، وليس بوصفه قضية استراتيجية، ترمي إلى إنشاء الدولة الوطنية الفلسطينية، لكل الفلسطينيين. وهنا تبرز مسألة إصرار السلطة الفلسطينية، بتركيبتها الحالية، على عملية التفاوض مع الإسرائيليين باعتبارها الوسيلة الوحيدة الناجعة للوصول إلى تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني مع الإسرائيليين، ولا تمنح المسائل القانونية أهميتها المطلوبة في عملية التفاوض. ويحضر في هذا المجال، إهمال السلطة الفلسطينية مسألة قانونية دولية، جسّدها الرأي الاستشاري، الذي صدر عن محكمة العدل الدولية في التاسع من تموز (يوليو) عام 2004، بخصوص عدم شرعية مسار جدار الفصل أو العزل الإسرائيلي، وأقرّت فيه هذه المحكمة الدولية - لأول مرّة - بأنّ الأراضي الفلسطينية، بما فيها القدس الشرقية، هي أراضٍ محتلّة، وأكّدت على وصف إسرائيل بأنها دولة احتلال، وعلى ضرورة التزامها بالقيود التي تفرضها قواعد القانون الدولي العرفي والاتفاقي. ولم تستثمر السلطة الفلسطينية هذا البعد القانوي الدولي في خدمة القضية الفلسطينية، نظرا لمراهنتها على عملية التفاوض والعملية السلمية مع الطرف الإسرائيلي.
الاستثمار الفلسطيني
يمكن القول إن التوجه إلى الأمم المتحدة والحصول على الاعتراف الأممي يمثل إنجازا مهما للقضية الفلسطينية، لكنه ليس كافيا وحده، إن لم يقترن بالاستثمار والتوظيف على مختلف الصعد، السياسية والقانونية، والاقتصار على النصر المعنوي لتقوية موقف السلطة التفاوضي يفرّغ الإنجاز من فحواه وأهدافه. ولا شك في أن الأجدى هو استثمار الاعتراف الدولي من أجل إرغام إسرائيل على الإذعان للقرارات الدولية، وطرح قضية حقوق اللاجئين بقوة، والعمل من أجل الدفاع عن مختلف الحقوق المدنية والاجتماعية والاقتصادية للفلسطينيين أينما وجدوا، وعدم التفريط في أي من الثوابت الفلسطينية، إضافة إلى عدم إقصاء أي طرف فلسطيني. ويتطلب ذلك تضامنا عربيا ودوليا مع الحقوق الفلسطينية والقانون الدولي، على الرغم من إرادة الساسة الإسرائيليين وحلفائهم الأمريكيين والأوروبيين وسواهم.
ولعل العامل الأهم في تقوية الموقف الفلسطيني هو ترتيب البيت الداخلي الفلسطيني، من خلال تحقيق المصالحة، وتلبية حاجات الفلسطينيين، والاستفادة من المتغيرات التي تحملها الثورات والحركات الاحتجاجية في المنطقة العربية، التي ستؤثر في المنطقة على مختلف الأصعدة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وستترك آثارها الإيجابية على القضية الفلسطينية، كونها ستسهم مع الزمن في تقديم فضاءات استراتيجية عربية داعمة للشعب الفلسطيني. وقد تفضي - على الأرجح - إلى اختلال موازين القوى السائدة حاليا في المنطقة، وهو ما يسبب حالة قلق وارتباك إسرائيلي وأمريكي كبيرين، خاصة أن التغيرات في مصر، بالنظر إلى ثقلها الجيوسياسي في المنطقة العربية، ستطول بشكل مباشر القضية الفلسطينية والعلاقة مع إسرائيل؛ لذلك تحرص كل من الولايات المتحدة وإسرائيل على الإبقاء على الأوضاع السابقة نفسها، التي تضمن السيطرة على المؤسسة العسكرية، واستمرار السياسة الخارجية المصرية السابقة نفسها، وبما يحقق الحفاظ على التوازنات والتعهدات والاتفاقات بين مصر وإسرائيل، ومنع حدوث أي تغييرات أخرى، يمكنها أن تخرج الأمور عن نطاق السيطرة، وتعيد المنطقة إلى الوضع الذي كانت عليه قبل توقيع اتفاقيات كامب ديفيد.
غير أن حركة التغيير في مصر والبلدان العربية الأخرى فتحت الباب أمام عدد من التأثيرات المهمة بالنسبة للوضع الفلسطيني، حيث بدأت مؤشرات على صعيد السياسة الخارجية المصرية تشير إلى بداية انزياح مهم، بدأ يأخذ طريقه في التشكل على مستوى دور مصر العربي والإقليمي وتوجهات سياستها الخارجية، ولعل أهم ملامحه يطاول الموقف من إسرائيل ومن الحصار على قطاع غزة، والعلاقة مع مختلف القوى والأطراف الفلسطينية.