تهوية المسجد
إن عمارة المساجد الحسية والمعنوية هي مما أمر به الشارع الحكيم يقول المولى جل وعلا: (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر) الآية، وقد حث الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، على بنائها: (من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة). وقد كان أول عمل فعله الرسول، صلى الله عليه وسلم، عند مقدمه المدينة هو بناء المسجد.
ويتبين لمن ينظر في المدن العربية والإسلامية الأولى أن المسجد كان العنصر الرئيس في المدن والقرى، وأن المسجد الجامع كان يمثل النواة في الأحياء. ولا يزال المسجد إلى يومنا هذا يمثل في بعض المدن وكثير من القرى العنصر الرئيس فيها.
ولقد اهتم أسلافنا بعمارة المساجد فأحسنوا تصميمها كي تتعامل مع الظروف المناخية خلال فصول السنة بصورة رائعة متجسدةً في حلولٍ معمارية هي محصلة تراكم خبرة لسنوات عديدة ساعدت على التكيف مع هذه الظروف المناخية بشكل مريح، وتهوية المسجد من الأمور المهمة التي كانت تراعى في المساجد القديمة، ولكنها اليوم مفتقدة في كثير من مساجدنا الحديثة، ولذا فهي في بعض الأحيان تدع المصلين يتدافعون للخروج من المسجد بدل المكوث فيه.
المسجد في السابق
لقد كان المسجد يمثل مجموعةً من الفراغات المعمارية التي تتكيف مع البيئة ليس فقط لفصل واحد من العام بل لفصول السنة بأكملها، وليس هذا فحسب بل إننا نجد أن كل فراغ في المسجد يؤدي أكثر من وظيفة خلال العام عندما تتبدل فصول السنة وأيامها.
فحينما تهب رياح الشمال في فصل الشتاء ويزداد المناخ برودة، خصوصاً وقت السحر، فإن صلاة الفجر تقام في المسجد في خلوة دافئة تحتضن المصلين على الرغم من برودة الجو في الخارج، وذلك لكونها تحت مستوى سطح الأرض، ولذا تحتفظ بدرجة حرارة معتدلة، وكما هو معلوم فإن البناء تحت سطح الأرض في المناطق التي تتميز بمناخ قاري هو من الحلول المناسبة صيفاً وشتاء، ونجد أن الخلوة لما تتصف به من دفء وهدوء وروحانية تجعل المصلين يمكثون وقتاً أكثر داخل المسجد.
وفي وقت الظهيرة من أيام الشتاء أيضاً تقام الصلاة في سرحةٍ تقع في وسط المسجد، حيث الهواء الطلق والنسيم العليل مع دفء الشمس، وحينما تزول الشمس ويلقي المسجد ظلاله على هذه السرحة فإن المصابيح الخلفية للمسجد لا تزال مشمسة تؤدى فيها صلاة العصر، وبقية الصلوات تقام في الفراغ الأمامي للمسجد.
ومع انقضاء فصل الشتاء تتبدل وظائف الفراغات كما سبق الإشارة إليه لتوائم المناخ، فالسرحة التي كانت مكانا لصلاة الظهر في فصل الشتاء هي في فصل الصيف مكان مناسب لصلاة الفجر والمغرب والعشاء، حيث تهب نسائم منعشة خلال الليل تعمل على تخفيف شدة الحر وتلطف الجو بهواء طبيعي عليل، وهكذا دواليك بقية الفراغات التي يحويها المسجد.
ولا تزال بعض المساجد القديمة القائمة في مدن وقرى وهجر منطقة نجد التي تم تشييدها بمادة الطين شاهدة على هذا التكيف مع البيئة وظروفها والحلول المعمارية التي قدمها لنا أسلافنا لمعالجة هذه الظروف، وهي حلول سهلة وطبيعية ويتفاعل معها المصلون برضى وانسجام هي لا تضر بهم أو ببيئتهم، كما أن تكاليف بناء أو صيانة هذه الحلول لا يمثل عبئاً على المسجد أو الأوقاف التي وضعت له.