رأس المال .. ليس جبانا
تتردد على الألسنة وفي الأدبيات الاقتصادية عبارة "رأس المال جبان".. ولعل حظ هذه المقولة من الصحة كحظ المثال التقليدي للخبر كما يعرفه طلاب الإعلام وهو "عض الرجل الكلب"، حيث جاء الإعلام الحديث ليتجاوز هذا، خصوصا الإعلام الاستقصائي، فقد كان الخبر التقليدي يستهدف الإثارة من خلال الغرائبية فيه لجذب انتباه القراء، لكن صيغة "عض الرجل الكلب" لم تصمد، فقد صار بإمكان الصياغة المباشرة أن تكون أشد إثارة وجذبا لا لغرائبيتها، وإنما لحجم الضخ المعلوماتي فيها وللسياق المعرفي، وتقديمها بموضوعية تجمع بين المنهجية والرؤية وبراعة الأسلوب.
أما حين نتأمل في مقولة "رأس المال جبان" فسنجد أنها في الحقيقة مقولة ملتبسة، لا تصمد أيضا صدقية دلالتها للثبات، إذ غالبا ما يكون عكسها عند التمحيص هو الصحيح.. فرأس المال في واقع الأمر وفي مجرى الأحداث على مدى التاريخ لم يكن جبانا، بل هو شجاع، فلولا شجاعة رأس المال، لما كانت صروح التقدم من مصانع ومزارع وتقنيات ومراكز بحوث ومعامل ومختبرات، ولما مخرت السفن بأحجام هائلة عباب البحار والمحيطات، أو غطست الغواصات في أعماقها، ولا حلقت الطائرات ودارت الأقمار الصناعية تملأ الأفق، ولا اجتازت المراكب الفضائية أجواز الفضاء ودارت حول الكواكب أو نزلت على سطوح بعضها.. وقل مثل ذلك في تضاعف كميات الغذاء والدواء آلاف المرات، أو ازدهار المدن والقرى وامتداد الطرق السريعة وسكك الحديد المكتظة بالسيارات أو القطارات، إلى جانب شموخ ناطحات السحاب، وقبلها ومعها مليارات المساكن الأنيقة تملأ الأرجاء.. وبشكل عام، لما صارت ملحمة التطور الحضاري الإنساني ضاجة بالمبهر المثير في كل مجال، في كل قارات الدنيا.
إذا.. فجميع إنجازات البشرية مدينة لشجاعة رأس المال، وهو قول يصدق على الأفراد والمؤسسات والدول أيضا، أو لنقل إن الإنجازات مدينة لمغامرته ومجازفته، حتى إنه لن يبقى من علامات على جبن رأس المال سوى هرولاته أحيانا، حين يتهيب من الظروف غير المواتية، للجوء إلى صناديق الادخار كودائع سيادية أو خاصة، وأحيانا أخرى للركون إلى أصول ثابتة، لا تحمل مخاطر، ولا تتطلب جهدا.
لكن.. هل يملك المال بنفسه أن يكون جبانا أو شجاعا، كما يملك الرجل أو الكلب إمكانية في "العض"؟.. وطبعا من البداهة القول إنه لا يملك ذلك، لأن المال بذاته مجرد "أداة" لا حول له ولا قوة.. فمن يحدد الجبن أو الشجاعة هو صاحب المال أصلا؟ وليس المال بكل تأكيد، لكن المجاز اللغوي في الواقع هو السبب في هذه المغالطة، فقد كان حيلة الإنسان للإفلات من المذمة، كي يعفي نفسه من الاتصاف بالجبن طالما هو صفة بغيضة، ولذلك عمد إلى التستر على جبنه، وقام بإحالة هذه الصفة إلى المال بدلا عنه، لأنه – لا شعوريا – لا يريد الاعتراف بجبنه الناجم عن حرصه على ماله وخوفه من فقدان ثروته.
أبعد من هذا.. فإن المسألة هنا ليست مسألة جبن أو شجاعة بقدر ما هي مسألة تتصل بالذكاء، فهو المعول عليه في اتخاذ قرار بشأن استثمار رأس المال، إلا أن اللا شعور هذه المرة أيضا مارس إزاحة لدور هذا الذكاء، لغمط حق تمتع الناجحين بعقل ثاقب، وحتى لا يتم الاعتراف بذكائهم الذي مكنهم من المبادرة إلى توظيف رأس المال دون تردد، في ظروف قد يراها غيرهم صعبة مخيفة، فشواهد التاريخ تقدم قصصا باهرة عن شخصيات ومؤسسات ودول تقحمت الميدان في أحلك الظروف وأصابت خيرا كثيرا.. ألا يعني ذلك في النهاية أن الشجاع حقا، هو الذكي بالفعل!