على خطى الملك عبدالعزيز من نجد إلى الحجاز.. 50 رحلة
38 رحلة على مدى 30 عاما قام بها الملك عبدالعزيز، بين نجد والحجاز، صانعا من خلالها جزءا مهما من تاريخ المملكة ومسيرة التوحيد.
تفقد أحوال الرعية، والاطلاع على أحوال البلاد والنظر في شؤونها، وتحري مصالح الشعب وأوضاعه، وكشف احتياجات أطراف البلاد ونواحي البادية البعيدة عن الحواضر ومتابعة المشاريع العمرانية والإصلاحية، تلك هي الأهداف التي وضعها الملك المؤسس نصب عينيه خلال رحلاته الدائمة.
عبر رحلاته، كان الملك يشرف بنفسه على سير الأمور وتنظيم الأعمال في مختلف النواحي والجهات، وإدخال التعديلات والتحسينات اللازمة حسبما تقتضيه الضرورة وتتيحه الإمكانات المتوافرة، يتفقد سير العمال والموظفين لكشف جوانب الخلل والقصور ومعالجتها.
ومن خلال تلك الرحلات، وثق الملك العلاقة بين الراعي والرعية عبر سياسة الاتصال المباشر والباب المفتوح بين الحاكم والمحكوم لتحقيق المطالب وحل المشكلات.
بين نجد والحجاز، اجتماعات ومؤتمرات عقدها المؤسس مع أهل العقد والحل، ولقاءات مع العلماء والكبراء والأعيان للتشاور والمناقشة في مختلف القضايا الوطنية، تحقيقا لمبدأ الشفافية وإشراكهم في الرأي في معالجة الأزمات الطارئة أو اتخاذ القرارات اللازمة في شؤون البلاد وإصلاحها وعمرانها.
في كل مكان يمر به أو يقيم فيه يشرع في مقابلة كل من يريد مقابلته لعرض شكوى أو للنظر في مظلمة، إضافة إلى نظره في عرائض أصحاب الحاجات وأمره بما يجب.
على طول الطريق، في رحلاته المتوالية، من نجد إلى الحجاز، ومن الحجاز إلى نجد، لا يمر الملك عبدالعزيز بفرد أو جماعة من شعبه المخلص إلا وكلمات الترحيب السعيدة والدعوات الصادقة تستقبله في حله، وتودعه في ترحاله، ولاء له، وامتنانا للأمن السائد في ربوع البلاد، على يديه.
وإن اختلفت مراسم استقبال ووداع الملك عبدالعزيز، في رحلاته بين نجد والحجاز، شكليا، فقد توحدت في الفرح الغامر بقدومه، والحزن على فراقه.
تقاليد عربية أصيلة ترتبط بهذه الرحلات تشترك في المظاهر المعنوية رغم تمايز مظاهرها المادية، بين بساطة مراسم التوديع في الرياض عند المغادرة إلى الحجاز وعدم وجود أي إجراءات رسمية أو بروتوكولات عصرية، ومعالم الزينة ونصب الأقواس ورفع الأعلام العربية الخضراء في أحياء وشوارع مدن الحجاز.
الصورة أعلاه صورة نادرة نشرتها دارة الملك عبدالعزيز على غلاف كتاب من تأليف خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، صدر في عام 2010 تحت عنوان "ملامح إنسانية من سيرة الملك عبدالعزيز"، في حين أوضحت بيانات الصورة في الصفحة الـ15 من الكتاب أنها التقطت في 10/ 12/ 1357 هـ، الموافق 30/ 1/ 1939، وأن الذي بجوار الملك عبدالعزيز هو نجله الملك سلمان بن عبدالعزيز وعمره آنذاك نحو ثلاثة أعوام، فيما نشرت الدارة في أعوام لاحقة الصورة موضحة أنها التقطت أثناء إلقاء الملك عبدالعزيز كلمته في حفل استقبال رؤساء وفود الحج في مكة المكرمة، وبثت فيلما يوثق هذه الكلمة بالصوت والصورة وهو من محفوظات مركز أرشيف الصور والأفلام التاريخية في الدارة. وفي المحاضرة التي ألقاها الملك سلمان بن عبدالعزيز في رحاب جامعة أم القرى مساء السبت 19 آذار (مارس) 2008 وتضمنها كتاب "ملامح إنسانية من سيرة الملك عبدالعزيز"، أكد أنه كان لمكة المكرمة في نفوس أبناء الملك عبدالعزيز مكانة خاصة وأنهم كانوا يتباشرون بخبر سفرهم مع والدهم آنذاك، وأنهم عندما كانوا صغارا في غاية السرور عندما يأتون إلى مكة المكرمة، ويستمتعون بالإقامة فيها، والدراسة في قصر السقاف الذي تنتقل إليه مدرستهم عند القدوم إلى الحجاز. من هنا يتأكد لنا مرافقة الملك سلمان لوالده في أسفاره وتعلقه بمكة المكرمة والحجاز منذ نعومة أظفاره وأنه كان في وقت مبكر من حياته يشهد المجالس ويحضر المناسبات، بل إن التتبع التاريخي يؤكد أن الملك سلمان رافق والده في رحلاته إلى الحجاز قبل ذلك التاريخ، إذ نجده في معيته عند قدومه إلى مكة المكرمة عام 1355هـ/ 1937 وعمره عام واحد، فيما تكررت مرافقته لوالده في عدد من رحلاته السنوية بين نجد والحجاز على مدى الـ18 عاما التالية، ونظرا إلى أهمية رحلات الملك عبدالعزيز بين نجد والحجاز التي لم تتوقف طيلة الـ30 عاما الأخيرة من حياته بما حملته من أبعاد سياسية وما وثقته من آثار اجتماعية واقتصادية وما تتضمنه من معلومات تاريخية وجغرافية، كان جديرا بأن نسلط الضوء بمناسبة اليوم الوطني للمملكة على هذه الرحلات النوعية التي تستحق الدراسة والتوثيق بحكم أنها جزء مضيئ من التاريخ السعودي الحديث وجانبا لافتا في سيرة المؤسس العظيم، وسيتركز البحث بشكل خاص على الرحلات التي قام بها الملك عبدالعزيز بين نجد والحجاز بواسطة السيارات خلال الفترة "1926 - 1945" على أن هناك بعض الجهود المستنسخة من بعضها لعدد من الجهات لنشر عدد محدود جدا من تلك الرحلات.
ونحن إذا نظرنا إلى تواريخ الأمم الماضية، وأحوالها وأخبارها لوجدناها عامرة بكفاح قادتها وجهاد رجالها في سبيل دينهم وأمتهم، فإذا نحن قدرنا تلك الشخصيات وأشدنا بذكرهم فإنما نفعل ذلك لأن أعمالهم عظيمة تستحق الإجلال والإكبار، وكما أن التاريخ قد حفظ بين دفتيه لتلك الشخصيات أعمالها، ولتلك الأمم أخبارها، فهو بلا شك سيحفظ للدول الحاضرة وقادتها ورجالاتها أعمالهم أيضا. وإن إلقاء نظرة على الأعمال العظيمة التي قام بها الملك عبدالعزيز في مسيرته الطويلة لتوحيد الوطن وبناء الدولة تجعلنا نكبر شخصيته ونعظمها، لأن أعماله تستحق التعظيم والإكبار، ولسنا في حاجة إلى سرد إنجازاته التي يصعب حصرها، بل نترك ذلك للتاريخ فهو كفيل بإظهارها والإشادة بذكرها، والتعظيم من شأنها، كما أن الأعمال هي وحدها برهان ينطق بالحق.
وكان الملك عبدالعزيز يقضي كثيرا من أيامه في مشاق الأسفار، تارة في الحجاز، ومرة في نجد، وأخرى في الأحساء، وأحيانا في الشمال أو الجنوب متنقلا كل أيامه في مدنها، وقراها، متطلعا إلى أحوال أهلها، متفقدا سير عماله فيها، مشرفا بنفسه على الصغيرة والكبيرة من أمورهم، متمثلا قول الرسول - صلى الله عليه وسلم، "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"، وهو على طول الطريق في رحلاته المتوالية لا يمر بفرد أو جماعة من شعبه المخلص إلا وكلمات التراحيب السعيدة وتراتيل الدعاء الصادقة مثل: "يا هلا فيك يا أبو تركي"، "الله يحييك يا أبو تركي"، "أعزك الله بطاعته"، "ثبتك الله على كلمة التوحيد"، "هداك الله لنا وهدانا إليك"، "حياك الله يا أبا تركي"، تطرق الأسماع لتردد الصحراء الممتدة صداها وكأن رحلات هذا الملك العادل استفتاء حقيقيا مباشرا على محبته والولاء له امتنانا بالدرجة الأولى للأمن الضارب بأطنابه في هذه المفازات بعد أن كان الخوف راعيها والجوع كاسيها، ولعل خير تعبير عن ذلك الشعور الحقيقي بالأمان الذي بثه الملك عبدالعزيز في نفوس الناس في جميع أنحاء الجزيرة العربية المترامية الأطراف هو منطق تلك المرأة التي صادفها الملك عبدالعزيز في إحدى رحلاته تسير في الصحراء وحدها متوجهة لتمتار من الأحساء، فاستغرب ذلك وأرسل من يسألها عن مسيرها وعدم خوفها، فكانت إجابتها بالدعاء لعبدالعزيز الذي جعلها آمنة مطمئنة لا تخاف إلا الله لأنه "حط في السما برقية، وفي الأرض مرية"، كما عبرت عنه تلك الشابة التي شاهدها الملك في إحدى رحلاته في الصحراء ترعى غنمها في وحدها، وحين سألها الملك: ألا تخافين من ذئب الرجال لا ذئب الغنم؟ قالت: "إني آمنة في هذا المكان برجلي"، فسألها الملك: ومن رجلك؟ قالت: "رجلي عبدالعزيز بن عبدالرحمن الذي أعطاني الأمان وكسر أنياب الذئاب". هذه التعابير الصادقة البسيطة تزف لنا الإنجاز التاريخي الحضاري الأول الذي نقل به الملك عبدالعزيز الجزيرة العربية من ظلام الماضي إلى نور المستقبل متسلحا بسلاح العلم والإيمان ساعيا في خدمة دينه ووطنه وشعبه.
الملك عبدالعزيز بين نجد والحجاز
كانت أول رحلة للملك عبدالعزيز من نجد إلى الحجاز على ظهور الإبل عام 1924 ثم بدأ الملك باستخدام السيارات في جميع رحلاته بعد ذلك حتى عام 1945، إذ ركب الملك عبدالعزيز الطائرة لأول مرة في رحلاته عندما هبطت تلك الطائرة في عفيف في الأيام الأولى من أكتوبر 1945 فأقلته إلى الحوية قرب الطائف، ومنذ ذلك الحين بدأ باستخدام الطائرات في رحلاته بين نجد والحجاز، فكانت رحلات الذهاب إلى الحجاز تتم من الرياض إلى الحوية ورحلات الإياب تتم من جدة إلى الرياض، مع أن الأمر لم يخل من استخدام السيارات في أحيان قليلة، أما رحلة الملك الأخيرة فكانت بالطائرة من الرياض إلى الحوية عام 1953، إذ توفي في الطائف في ذلك العام، ويرجح أن رحلاته بالطائرة بين نجد والحجاز نحو تسع رحلات على أن مجموع الرحلات يصل إلى 50 رحلة على مختلف وسائل السفر.
وبلغ مجموع رحلات الملك عبدالعزيز بين نجد والحجاز التي رصدناها خلال الفترة 1924 - 1945، 38 رحلة ذهابا وإيابا، ويمكن القول إن الملك عبدالعزيز قضى خلالها نحو 2529 يوما في الحجاز، أي ما مجموعه 84.3 شهر، أو نحو سبعة أعوام هجرية، وهو ما يشكل أكثر من 33 في المائة من المدة الإجمالية التي تخللتها هذه الرحلات البالغة 21 عاما هجريا تقريبا.
أسباب الرحلات وأبعادها
لا يمكن أن نختزل أبعاد رحلات ملك في أنحاء بلاده أو بين مناطقها ومدنها في الأسباب الظاهرة، رغم أنها عين الحقيقة، فالملك عبدالعزيز - مثلا - كان عندما يعزم على الرحيل إلى نجد يأسف لفراقه المؤقت للحجاز ويصرح بأن سفره "لمشاهدة الأهل والبلاد، لأن حب الوطن من الإيمان.."، أو يعبر بأن هذا السفر"لتغيير الهواء والسلام على الوالد"، أو "لتمضية بضعة أيام فيها"، بينما يظهر بوضوح أن رحلات الملك عبدالعزيز من نجد إلى الحجاز تأتي غالبا ليشهد موسم الحج ويشرف بنفسه على خدمة حجاج بيت الله الحرام وتهيئة أسباب راحتهم واطمئنانهم وقيادة وفودهم ومواكبهم في المشاعر المقدسة أثناء تأدية الفريضة. وفي أحيان قليلة يكون سبب الارتحال الظاهر هو تأدية العمرة أو قضاء العشر الأواخر من رمضان في مكة المكرمة، أو غير ذلك مثل رحلته من الرياض في كانون الأول (ديسمبر) عام 1944 للقاء الملك فاروق في ينبع في كانون الثاني (يناير) 1945 المسمى لقاء رضوى.
ولكن هذه الرحلات عموما تتداخل فيها الأسباب والنتائج، لأنها تأتي لتحقيق المصلحة العامة كما كان يعبر الملك عن ذلك في عدد من خطبه وأحاديثه، ويمكن تلخيص بعض مظاهر المصلحة العامة التي كان الملك عبدالعزيز يسعى إلى تحقيقها من خلال هذه الرحلات، فيما يلي:
1 - الاطلاع على أحوال البلاد والنظر في شؤونها وتحري مصالح شعبها ومعرفة أوضاعهم بشكل مباشر والتحدث مع المواطنين في شؤون بلادهم وما تحتاج إليه من إصلاح وعمران.
2 - إشراف الملك بنفسه على سير الأمور وتنظيم الأعمال في مختلف النواحي والجهات وإدخال التعديلات والتحسينات اللازمة حسبما تقتضيه الضرورة وتتيحه الإمكانات المتوافرة.
3 - تفقد سِير العمال والموظفين وقياس أدائهم وكشف جوانب الخلل والقصور ومعالجتها.
4 - توثيق العلاقة بين الراعي والرعية من خلال سياسة الاتصال المباشر والباب المفتوح بين الحاكم والمحكوم لتحقيق المطالب وحل المشكلات.
5 - ترسيخ مبادئ الديمقراطية من خلال عقد الاجتماعات والمؤتمرات مع أهل العقد والحل ولقاء العلماء والكبراء والأعيان للتشاور والمناقشة في مختلف القضايا الوطنية تحقيقا لمبدأ الشفافية وإشراكهم في إبداء رأيهم في معالجة الأزمات الطارئة أو اتخاذ القرارات اللازمة في شؤون البلاد وإصلاحها وعمرانها.
6 - الاستماع إلى شكاوى المواطنين في قضايا الحقوق العامة والخاصة وإجراء العدل والإنصاف وفق الأحكام الشرعية تحت مظلة القضاء. فكان في كل مكان يمر به أو يقيم فيه يشرع في مقابلة كل من يريد مقابلته لعرض شكوى أو للنظر في مظلمة، بل وردت إشارة بأن مناديا كان ينادي من له حاجة خاصة أو عامة فالملك مستعد لسماع أقواله، إضافة إلى نظره في عرائض أصحاب الحاجات وأمره بما يجب. كما نجده ينظر في الشكايات التي تقدم إليه من القبائل ضد بعضها ويحيلها إلى العلماء الذين يكونون برفقته ليصدروا حكمهم فيها حسبما جاء في الشرع الشريف.
7 - كشف احتياجات أطراف البلاد ونواحي البادية البعيدة عن الحواضر ومتابعة المشاريع العمرانية والإصلاحية وتأمين ما يلزم في محطات الطريق.
8 - إظهار عطف الملك وشفقته على المواطنين بتوزيعه الصدقات والأعطيات في أثناء الطريق على الفقراء والمحتاجين بنفسه، والإغداق على الآخرين من نفحات جوده الفياض وكرمه المتتابع الذي أصبح عادة ينتظرها كل من يمر به موكب الملك، إضافة إلى منحه المعتادة للوافدين عليه في كل مكان.
9 - تلبية دعوات بعض المواطنين وزيارة بعض الشخصيات والإقامة في بيوت بعضهم توثيقا للروابط وتعبيرا عن المحبة، وأحيانا يكون تقديرا لبعض الشخصيات ورفعا لمكانتها من باب الوفاء وحفظ المواقف النبيلة، ويتلقى كل أولئك غير هذا الامتياز المعنوي لطائف من العطايا التي لا تتوقف، بل تصبح من العادات الثابتة.
الاستعداد للرحلات ونظام سيرها
كان الملك عبدالعزيز إذا عزم على أي رحلة من رحلاته يوجه بالتجهيز لها قبل مدة كافية لا تقل عن أسبوع في كل الأحوال، لأنه هذه الرحلات تحتاج إلى استعداد استثنائي، فالركاب الملكي عادة يتكون من قافلة ميكانيكية عظيمة تتكون من عشرات السيارات، بل المئات، فهي تصل أحيانا إلى 300 سيارة، وهذه القافلة تضم عددا كبيرا من الناس ربما يتجاوز الـ500 نسمة في معظم الرحلات ولا يخلو عادة من النساء والأطفال من العائلات الملكية والخدم والحرس لارتباط معظم الرحلات بالحج إلى بيت الله الحرام، من هنا فإن المسافرين ووسائل السفر في ظل وعورة الطرق غير المعبدة وتعطل السيارات وضعف الاتصال، تفرض اتخاذ الاحتياطات اللازمة لظروف الطريق وتوفير التموين على امتداده لعدة أيام، وكذلك توفير ما يحتاج إليه الملك في محطات الطريق فيما يتعلق بالوفود وما يتصل بشؤون الضيافة والأعطيات، وغير ذلك من الشؤون الملكية. ولا غرابة بعد ذلك في إشراف الملك عبدالعزيز بنفسه على هذه الاستعدادات وتكليف الخاصة الملكية بإدارة أوضاعها. وقد أكد سعد الرويشد، الذي عمل في الخاصة الملكية لمدة 20 عاما، أن من أهم أعمالهم في الخاصة الملكية تحت رئاسة عبدالرحمن الطبيشي في ذلك الحين، القيام بما يلزم الرحلات الملكية السنوية بطريق السيارات إلى الحجاز في موسم الحج، فقبل تاريخ الرحلة بأسبوع يكون رئيس الخاصة الملكية قد رحل سيارات الفراشين بالخيام والطباخين بمعداتهم والمسؤولين عن تموين الموكب الملكي في الطريق بالأطعمة والنقود والكساوي وغيرها.
وكان من الاستعدادات المهمة وضع صناديق البنزين في المحطات التي سيمر بها الركب الملكي تأمينا لاحتياج السيارات في طريقها - وكان البنزين آنذاك يستورد من الخارج في صناديق وفي كل صندوق صفحيتان، وكذلك تخصيص هيئة هندسية خاصة للسير مع قافلة السيارات الكبيرة، لإصلاح ما يطرأ على السيارات من خلل وعطل أثناء السير.
وذكر الرويشد أن الملك يغادر الرياض في وقت محدد من العام خلال شهر ذي القعدة، وأنه يستغرق في هذا الطريق خمسة أيام: اليوم الأول في مرات والثاني في الدوادمي والثالث في عفيف والرابع في المويه والخامس في عشيرة، ولكن هذا الكلام ليس على إطلاقه، سواء في الوقت المحدد للمغادرة أو في المدة الزمنية للرحلة أو في مدة الإقامة في المحطات التي ذكرها، كما نلاحظ ذلك في الرحلات ذاتها رغم أن المحطات التي ذكرها من المحطات الرئيسة في الطريق.
كما أشار إلى أن الملك في كل محطة من محطات الطريق كان يحضر أمير البلدة وقاضيها وكبار رجالها للسلام عليه ويجتمع بهم ويكرمهم ويجلسون معه على مائدته ويحضهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان يؤكد على الأمراء ما يحكم به القضاء الشرعي، ويؤكد على القضاة بتحري العدل وتحكيم كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم، وإنجاز معاملات المتقاضين عندهم. ولهؤلاء الذين ذكرتهم جميعا عوائد منه في هذه المناسبات، كان يأمر بصرفها لهم قبل رحيله من هذه الأمكنة. وكان يفد عليه كذلك في هذه الطريق الكثير من كبار البوادي وغيرهم للسلام ولعرض بعض مشكلاتهم عليه، فكان ينظر فيها ويكرمهم ويتحفهم بعوائد نقدية. وللفقراء والمساكين حظ وافر من صدقات الملك التي كان يأمر بتوزيعها على طول الطريق عامة وفي المراكز الخمسة خاصة.
وكان نظام السير أنه إذا طلعت الشمس أمر على السيارات الكبيرة التي تحمل العدد الوفير وبعض الأثقال فسارت ويرافقها بعض السيارات الصغيرة، وذلك هي القافلة الأولى، فإذا بعدت قليلا ركب الملك وركب وراءه الأمراء من رجال العائلة وبعض حاشيته وخاصته، وسيارات هذا الفوج هي أحسن السيارات، وبعد ذلك تسير بضع سيارات فيها عمال السيارات والمهندسون "الميكانيكيون" ومعهم سيارتان فارغتان، وهؤلاء يسيرون آخر الركب حتى إذا وقفت سيارة أصلحوها، فإن لم يمكن إصلاحها حملوا أهلها وعينوا مكانها وساروا، وكان معدل السير في الرحلات الأولى لا يزيد على 15 - 20 ميلا في الساعة تقريبا بحكم وعورة الطريق وقدرات السيارات المحدودة في ذلك الحين.
وربما جاء نظام السير على نحو آخر مقارب حسب رغبة الملك، فتسير السيارات مفرزة مفرزة تسهيلا للسير ومنعا للازدحام والغبار، فتسير أول مفرزة منه القافلة الملكية تقل الأمراء وبعض أفراد العائلة المالكة، ثم تلحق بها بعد أيام المفرزة الثانية التي تقل أيضا أفرادا من العائلة المالكة بقيادة بعض الأمراء الكبار من أبناء الملك في الأغلب، لتتبعها بعد ساعات سيارات الملك ومعيته، وربما كلف الملك أحد أبنائه بالسير في آخر الركب للإشراف على تأمين سير القافلة، على أنه يتم ضرب موعد للقاء المفارز في إحدى محطات الطريق.
وربما صدر أمر الملك عبدالعزيز على رئيس القافلة الأولى بالسير إلى مكان يبعد عن الرياض نحو 100 كيلو متر، ثم يؤمر بمواصلة السير إلى مكان أبعد من ذلك، ليلحق بها في ذلك المكان مساء اليوم التالي، كما حدث في بعض الرحلات. وربما غادر ركب السيارات التي تقل أفراد الحاشية والحرس الملكي إلى محطة في الطريق في اليوم السابق لخروج الملك ليلتقي بها الملك في تلك المحطة في اليوم التالي. وفي بعض الأحيان تسير القافلة الأولى في طريقها إلى الحجاز وبعد ساعات قد تطول أو تقصر يغادر الركب الملكي للحاق بها، وربما أصدر الملك أمره على قافلة العائلة الكريمة بالتقدم من محطة إلى محطة أخرى قبل سائر القوافل تأمينا لراحتها، بحيث لا تبات العوائل في الصحراء.
ويلاحظ أن الملك عبدالعزيز كان يسير الراية "البيرق" التي تتقدم عادة الموكب الملكي الخاص وترمز إليه على رأس حملة التموين والأحمال الثقيلة إلى المحطة الأولى في الطريق قبل سفره بأيام قليلة. كما يلاحظ أن تسيير رتل السيارات التي تحمل العوائل الملكية يتقدم عادة على مسير الملك عبدالعزيز ومعيته، وخاصة في طريق العودة من الحجاز، كما يظهر في بعض الرحلات، كما أنه يصحب كل قافلة من قوافل السيارات في موكب الرحلة الملكية دليل خريت خبير بالطريق يضمن مسيره في الاتجاه الصحيح فلا تنحرف عنه ولا تضل عنه في هذه الصحراء الواسعة والتنائف المتوالية، ويكون الدليل عادة عارف بطبيعة الأرض فيوجه سير السيارات مع سهل الأرض ودمثها ويجنبها الحزن والوعر ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ومن أبرز هؤلاء ساطي العتيبي وبدر المجيديع.
خطوط سير الرحلات
في أغلب رحلات الذهاب والإياب كان خط سير الرحلات يبدأ من الرياض إلى مكة المكرمة بشكل مباشر أو العكس مرورا بمحطات أهمها أربع محطات هي: مرات - الدوادمي - المويه - عشيرة، ولكن هناك حالات استثنائية كان خط السير إلى الحجاز ينطلق من الرياض ثم يمر بالقصيم فحائل فالمدينة المنورة ثم جدة فمكة، كما يظهر في الرحلة إلى الحجاز عام 1928، أو تنطلق من الرياض إلى القصيم ومنها إلى المدينة المنورة ثم جدة فمكة، كما يظهر في الرحلة إلى الحجاز عام 1929، وقد تكون انطلاقة الرحلة من نجد إلى الحجاز ليس من الرياض، بل من "روضة الخفس" على سبيل المثال ثم تتجه في خط السير المعتاد، كما يظهر في رحلات الأعوام 1933، 1935، 1937، 1940. كما قد تنطلق رحلة الإياب من الحجاز إلى نجد من مكان آخر غير مكة المكرمة، كأن تنطلق من الطائف ثم تتجه في خط السير المعتاد، كما يظهر في الرحلات أعوام 1928، 1932، 1934. أو تنطلق من المدينة المنورة كما في رحلة عام 1927، وأحيانا نجد تغييرا للمسار بطريقة معينة، كما حدث في الرحلة عام 1945، إذ إن الملك عبدالعزيز اتجه أولا من مكة إلى الطائف ثم بعد أن وصل إلى عشيرة في طريقه إلى نجد انعطف منها إلى المدينة المنورة. والمتتبع لرحلات الملك عبدالعزيز بين نجد والحجاز يلاحظ أنه ربما يتحول خط السير في أعوام لاحقة قليلا عن مساره الأول، وعلى سبيل المثال كان الطريق يمر ببلدة الشعراء كمحطة رئيسة ثم تحول إلى الدوادمي منذ عام 1929، وقد يغير الطريق تغييرا طفيفا في رحلة دون أخرى كأن يدخل للرياض عن طريق "مصيقرة" بدلا من الحسيان كما في الرحلة عام 1934، كما يلاحظ أن الموكب الملكي قد يمر على مورد معين في رحلات، بينما يمر على مورد مختلف في رحلات أخرى بسبب قرب الموردين من بعضهما، وربما يكون السبب في زمن الرحلة توافر الماء في أحدهما دون الآخر أو قلة الواردين لأحدهما دون الآخر، كما يظهر على سبيل المثال في خف والخفيفية، حيث نلاحظ ورود "الخفيفية" في الرحلات عام 1928 وعام 1929 وعام 1935 وعام 1943، وورود "خف" في رحلات أخرى خلافها، كما أنه قد يقف الركب أحيانا في أماكن أو يبيت في أماكن ليست من الأماكن المعتادة مثل "ذريع" في الأعوام 1930، و1931، 1934، أو شعيب أبقار في بعض الرحلات، وكذلك وادي الجرير وجبل أبو دخن ووادي الرشا والمحدثة وسجا وشعيب الخضارة في رحلات أخرى، ولعل ذلك يأتي تبعا للاستمتاع بالربيع والأمطار أو الرغبة في القنص والصيد، أو لسبب من الأسباب الأخرى.
مواعيد الرحلات ومدة الإقامة
وفي حين كانت معظم رحلات الذهاب من نجد إلى الحجاز في الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام الهجري بنسبة 78.9 في المائة، فإن السفر في شهر ذي القعدة كان هو السائد، إذ إنه من بين 19 رحلة من نجد إلى الحجاز كانت عشرا منها في شهر ذي القعدة، أي بنسبة 52.6 في المائة، ويأتي بعده شهر ذي الحجة بثلاث رحلات، أي بنسبة 15.7 في المائة، وهو أمر طبيعي لارتباط هذه الرحلات بموسم الحج وحرص الملك على الإشراف على خدمة ضيوف الرحمن وقيادة الحجاج بنفسه.
بينما نجد أن معظم رحلات العودة من الحجاز إلى نجد كانت في الأشهر الثلاثة الأولى من العام الهجري بنسبة 57.8 في المائة، لكن السفر في شهر المحرم كان هو الأغلب، إذ إنه من بين 19 رحلة من الحجاز إلى نجد كانت خمسا منها في شهر المحرم، أي بنسبة 26.3 في المائة، ويأتي بعده شهر صفر بأربع رحلات، أي بنسبة 21 في المائة تقريبا، وهذا يدل على أن عودة الملك عبدالعزيز من الحجاز إلى نجد تتم عادة بعد نهاية موسم الحج بوقت قصير إذا علمنا بأن هناك رحلتين أيضا في شهر ذي الحجة.
كما يمكن القول إن 15 رحلة من مجموع الرحلات البالغة 38 رحلة تمت في فصل الشتاء، و12 رحلة في فصل الربيع، وأربع رحلات في فصل الصيف، وسبع رحلات في فصل الخريف، وحين نجد أن 27 رحلة تمت في فصلي الشتاء والربيع، أي بنسبة 71 في المائة تقريبا من مجموع الرحلات، يتأكد لنا أن لحالة المناخ دورا ملحوظا في اختيار توقيت الرحلات وتحديد مسارها ومدتها.
أما أطول مدة قضاها الملك في الحجاز فكانت المدة التي استغرقتها العمليات العسكرية لاستكمال ضم الحجاز خلال 1924 - 1926 وبلغت عامين وشهرين و28 يوما، ويليها مدة أخرى بعد الاستقرار تقدر بثمانية أشهر وخمسة أيام، وذلك في عام 1930، فيما كانت أقصر مدة قضاها الملك في الحجاز 23 يوما في العامين 1940 و1941.
عدد السيارات وأنواعها
فيما كان عدد السيارات التي سارت من الرياض إلى الدرعية في رحلة الملك عبدالعزيز إلى الحجاز عام 1924 أربع سيارات فقط لا غير، لكن في رحلة العودة إلى نجد في أوائل عام 1927 وصل عدد السيارات إلى 27 سيارة، ثم تناقص عددها في الرحلة التالية إلى الحجاز، إذ لم تتجاوز الـ25 سيارة، بينما أوفد الملك عند وصوله إلى الحجاز سائق سيارته الخاصة إلى أوروبا لشراء سيارات قوية وصالحة لمثل هذه المسافات الطويلة والطرق الوعرة، فسافر إلى لندن، ولكنه تأخر في سبيل إنجاز العمل، فلم يشأ الملك الانتظار في الحجاز لحين ورود تلك السيارات فأمر بشراء بعض السيارات القوية من مصر وكذلك بعض السيارات التي جلبها تجار جدة لاستعمالها في الحجاز، فاجتمع للموكب الملكي في رحلته إلى نجد في أواخر عام 1927، 22 سيارة، أما الموكب الملكي في رحلة الذهاب إلى الحجاز في عام 1928 فقد تألف من 27 سيارة بين كبيرة وصغيرة، وكان الملك عبدالعزيز يركب في سيارة أمريكية من نوع "كاديلك"، أما في رحلة الإياب إلى نجد في ذلك العام فنجد إشارة إلى وصول عدد من السيارات الجديدة إلى الحجاز لترافق الملك في هذه السفرة، منها 22 سيارة "شفروليت"، وثلاث "دودج"، وسيارة واحدة "كاديلك"، قدمها الملك لأخيه محمد، فامتازت هذه الرحلة عن سابقاتها بزيادة عدد السيارات التي سارت في ركاب الملك، إذ بلغ عددها 62 سيارة من مختلف أنواع السيارات، ومن أشهرها وأقواها، وكان الملك على سيارة من نوع "مرسيدس"، وكذلك نجله الأمير "محمد"، بينما كان إخوة الملك "محمد وعبدالله" على سيارات "كاديلك"، التي كان الملك يفضلها وأوصى على واحدة من هذا الجنس لنفسه، وكان في السيارات "الهدسون" و"الدودج"، وأكثر الباقي من نوع "شفروليت". وكانت السيارات على الإجمال في هذه الرحلة جيدة ولم تجد قافلة السيارات في هذه السفرة مثل المشاق التي كانت تلاقيها في الأسفار الأولى، وربما كان لصلاح السواقين وخفة محمول السيارات أثر في ذلك. بينما كانت تسير بضع سيارات فيها عمال السيارات والمهندسون "الميكانيكيون" ومعهم سيارتان فارغتان في آخر الركب، حتى إذا وقفت سيارة أصلحوها فإن لم يمكن إصلاحها حملوا أهلها وعينوا مكانها وساروا. أما في عام 1929 فيلاحظ زيادة مضاعفة في أعداد السيارات، إذ بلغ عدد سيارات الركب الملكي 130 سيارة من مختلف الأجناس، منها ما حمولته أربعة ركاب، ومنها ما حمولته 14 راكبا، ويظهر أن 75 سيارة منها مخصصة لنساء العائلة المالكة، مع العلم أنه قد سار في ركاب القافلة الملكية هذه المرة كثير من الجند على الإبل فكانوا يتعاقبون على المياه والموارد. أما في عام 1930 فقد تضخم عدد السيارات حتى شكلت قافلة بخارية عجيبة لم تشهد لها جزيرة العرب مثيلا في سابق زمانها، إذ تكونت من 300 سيارة من مختلف الأجناس، وقد كان منها من ماركة "مرسيدس، ولونكنكج، وهدسن، وبيكاو، وشفروليت، ولنسيا، ومورمون، وفيات، وستوري بيكر، وفورد" وغيرها، كما خصصت هيئة هندسية خاصة للسير في الركاب الملكي، رافق قسم منها المقدمة، وأخرى في الوسط، والثالثة في آخره لإصلاح ما يطرأ على السيارات من خلل وعطل أثناء السير، ووضعت صناديق البنزين في المحطات التي سيمر بها الركب تأمينا لاحتياج السيارات في طريقها. لكننا نلاحظ تناقصا في عدد السيارات في آخر ذلك العام، فقد بلغت سيارات الركب الملكي 150 سيارة من مختلف الأنواع.
بينما لم تتضح لنا أعداد السيارات بشكل دقيق فيما تلا ذلك من الرحلات، إذ يكتفى بالإشارة إليها تحت تعبير "رتل من السيارات" دون تحديد عددها كما يظهر في بعض الرحلات، ولكن يرجح أنها ستكون في حدود 125 - 150 سيارة في كل رحلة.
محطات الطريق
الطريق بين نجد والحجاز يمر بمعالم طبيعية تمثل تضاريس الجزيرة العربية الجغرافية، فمن جبال طويق إلى صحراء ركبة التي تقع عشيرة على حدودها الغربية هناك تنوع ظاهر في التضاريس يمر بأودية ورمال وسهول وحزون وبلدان وموارد. وأما من عشيرة إلى مكة المكرمة، فإن التضاريس الجبلية بما فيها من عقاب صعبة تخترق الثنايا والريعان صعودا وهبوطا هي الغالبة على الطريق. ومع المسافة الطويلة للطريق والمدة التي يستغرقها، فقد كان الموكب الملكي يقف في محطات كثيرة لورود الماء وللاستراحة والمبيت ولتناول الطعام "المضحى والمعشى"، وكذلك للتزود بالوقود ولأسباب أخرى يراها الملك، ولكن تعارف الناس بعد ذلك على أربع محطات رئيسة على هذا الطريق كان الملك لا يتجاوزها في رحلاته عادة ويقضي فيها وقتا أكثر من غيرها، فيفد عليه الناس ويقصدونه فيها، وهي مرات والدوادمي والمويه وعشيرة، ويظهر أن اختيار هذه المحطات لم يكن مصادفة، بل خطط له بعناية، فمرات تقع في نصف المسافة بين الرياض والدوادمي، وعشيرة تقع في نصف المسافة بين مكة والمويه، والمسافة بين الدوادمي والمويه نحو 400 كيلو متر هي المسافة الفاصلة فعليا. ولذا، فقد اهتم الملك عبدالعزيز بهذه المحطات وعني فيها عناية خاصة، وباستثناء عشيرة، فأقام في مرات والدوادمي والمويه القصور وجعلها مقرا لدوائر الحكومة وأمنها ومنزلا له في غدواته وروحاته وحفر الآبار فيها أو قريبا منها ووضع في كل منها مدخرا لوقود السيارات ثم زودها لاحقا باللاسلكي "البرقية"، لتشكل هذه المواقع نقاط ربط وتواصل على هذا الطريق الطويل. ويبدو أن بنيان القصور تم في وقت متقارب، فقد أسس قصر المويه في عام 1930 فيما اكتمل بناء قصر الدوادمي في عام 1932 وأمر الملك ببناء قصر مرات قريبا من هذا التاريخ، وأما في عشيرة فقد أمر في عام 1931 بحفر خمسة آبار في موقع مخيمه هناك وأقام هناك أيضا بعض المباني.
صعوبات السفر ومشكلاته
على الرغم من كون السفر بالسيارات ساعد على تقليص مدة السفر وجعله أكثر راحة من السفر على ظهور الإبل، إلا أن طرق السيارات لم تكن معبدة، فكانت وعورة الطريق سببا في سرعة خرابها وعدم الاستفادة منها، كما أن ما يعرض في الطريق من معوقات طبيعية، كالأودية والرمال والرياح والأمطار والسيول، يتسبب في التوقف والتأخير، إضافة إلى ما يعترض السيارات من أعطال ميكانيكية أو كهربائية طارئة، ولذا كان لزاما أن ترافق الموكب فرقة هندسية ميكانيكية لإصلاح ما يطرأ على السيارات من خلل وعطل أثناء السير وتكون عادة في آخر الركب ومعها سيارات فارغة، فإذا وجدوا أن إحدى السيارات قد توقفت أصلحوها، فإن لم يمكن إصلاحها حملوا أهلها وعينوا مكانها. وفي فترة الحرب العالمية الثانية كانت حالة السيارات في أسوأ أوضاعها بسبب ظروف الحرب التي فرضت انقطاعا في المواصلات وانحسارا لصناعة واستيراد السيارات وقطع غيارها، ويظهر أن لانشغال معظم المصانع بالإنتاج الحربي والعسكري دور في ذلك.
وكذلك كانت هناك معاناة للسيارات مع نقص البنزين وعدم توافره في كل مكان، لأنه إنما كان يستورد من الخارج ثم تحمله السيارات في صناديق ويوضع في أماكن محددة على الطريق لتأمين حاجة السيارات التي تنقله معها أيضا، ولكنه كان كثيرا ما يقصر عن كفاية جميع السيارات فيضطر الموكب لانتظار توفيره. وأيضا من صعوبات الطريق أن موارد المياه التي تمر بها السيارات ليست إلا آبارا ضيقة وبعضها شحيحة وبعضها بعيدة المنزع وبعضها ليست عذبة. وفي كل الأحوال، لا يمكن ورود جميع الناس عليها في وقت واحد، بل يكون الورود فرقة فرقة، وهذا أمر يستغرق وقتا، بل إن أحوال الطقس كالحر الشديد والبرد الشديد، لها تأثيرها في سير الرحلة، فمثلا الحطب الذي كان يستخدم في الطهي والتدفئة آنذاك لم يكن يتوافر في كل مكان، ولذا فإن تحديد مكان المبيت يعتمد على توافره، خاصة في فصل الشتاء.
ومن الصعوبات، أنه ربما انتاب الطريق أمطار غزيرة وسيول متدفقة تعترض أكثر أجزاء الطريق وتجبر القافلة على التوقف عدة أيام. وأما حين تعبر السيارات بطون الأودية أو كثبان الرمال، فإن المعاناة تكون مضاعفة، إذ إن معظم السيارات تنغرز في الرمال فلا تستطيع السير ولا الانفكاك إلا بالسحب بالحبال أو الدفع بالأيدي ووضع "الصاج" تحت إطاراتها فينزل جميع الركاب وينشغلوا بمحاولات متكررة لإخراجها، وذلك ديدنهم حتى يتجاوزوها، وكان الملك بإنسانيته العظيمة وأخلاقه الكريمة كلما رأى سيارة من سيارات الموكب عالقة في رمل أو راسبة في واد أو متعطلة لسبب فني، أوقف سيارته حتى يتم إخراجها أو إصلاحها.
مدة الرحلات
نلاحظ أن أقل مدة استغرقتها رحلات الملك عبدالعزيز المباشرة بين نجد والحجاز هي يومان، وذلك في عام 1943، والتي كانت من نجد إلى الحجاز، أما أطول مدة فكانت 14 يوما في الرحلة عام 1937، والتي كانت من الحجاز إلى نجد، وما بينهما نلاحظ أن أربع رحلات استغرق كل منها ثلاثة أيام، وأربع رحلات استغرق كل منها أربعة أيام، وست رحلات استغرق كل منها خمسة أيام، وثلاث رحلات استغرق كل منها ستة أيام، ورحلتين استغرق كل منهما سبعة أيام، وثلاث رحلات تمت كل منها في ثمانية أيام، وثلاث رحلات تمت كل منها في عشرة أيام، وثلاث رحلات في 12 يوما لكل منها، ورحلة واحدة في 13 يوما، مع استثناء رحلتين لم تكن بطريق مباشر، مثل رحلة عام 1928 التي استغرقت نحو 30 يوما، ورحلة عام 1929 بحكم أن الملك في الرحلتين خرج من الرياض لتأدية بعض المهام السياسية والعسكرية أولا ثم توجه إلى الحجاز بعد إنهائها.
ويمكننا القول بعد هذا الاستعراض إن متوسط الزمن الذي يقضيه الملك عبدالعزيز في رحلاته على السيارات بين نجد والحجاز عموما نحو سبعة أيام، على أنه غالبا ما يقطعها في خمسة أيام أو أقل.
تقاليد الوداع والاستقبال
من التقاليد العربية الأصيلة المرتبطة بهذه الرحلات مراسم الوداع والاستقبال للملك عبدالعزيز في نجد والحجاز، والتي تشترك في المظاهر المعنوية، لكنها تختلف وتتمايز المظاهر المادية، إذ تتسم مراسم توديع الملك عبدالعزيز في الرياض عند المغادرة إلى الحجاز أو غيره بالبساطة وعدم وجود أي إجراءات رسمية أو بروتوكولات عصرية، لكن كان وداع الملك لوالده الإمام عبدالرحمن - قبل وفاته - ابتغاء لدعائه وطلبا لرضائه وتقبلا لوصاياه، من الأولويات التي يحرص عليها الملك عبدالعزيز، بل كان يؤجل سفره إذا لاحظ طارئا على صحة والده وينتظر أياما يراقب فيها صحته حتى يأذن الله بالشفاء، ثم يسافر كما حدث في عام 1928. والغريب أنه كان يخالج الملك عبدالعزيز شعور بالخوف في تلك الأثناء أن يكون هذا الوداع الأخير، فكان يقبل يدي والده ويسأله: "هل أنت راض عني؟"، فيجيبه الإمام: "لا شك"، ثم يقبل على يديه ويقبلهما مرة أخرى ويسأله: "والدي هل أنت عني راض؟"، فيجيبه: "لا شك في ذلك"، وما زال يكرر السؤال ووالده يجيبه حتى شفى نفسه، وكان ذلك الاجتماع آخر اجتماع له بأبيه، إذ وصله خبر وفاته وهو في مكة المكرمة.
وبشكل عام، كان علية القوم في الرياض يقبلون على قصر الملك قبيل سفره بقليل فيقابلهم في بهو القصر بكل تلقائية ليسمعوا من الملك بعض الأحاديث المصحوبة بروح المودة والعطف - والتي تزيد الأفئدة تعلقا به وحبا له - ثم يودعه الناس ويركب سيارته فيسير موكبه في طريقه، بينما تسير في ركابه سيارات المودعين من الأمراء وكبار المقيمين في الرياض ويكون على رأسهم عادة الأمير سعود، أكبر أنجال الملك، فيواصلون السير في ركاب الملك مشيعين له تقديرا وتبجيلا إلى إحدى محطات الطريق الأقرب فيودعونه هناك، ولكن ربما ساروا مع الملك إلى محطة أبعد لغاية معينة.
ولكننا في مرحلة لاحقة نلاحظ أن مراسم التوديع في الرياض بدأت في عام 1936 تتخذ بعض الإجراءات والبروتوكولات التي كان يقتصر العمل بها سابقا في الحجاز، إذ تشير المصادر إلى أن مغادرة ركب الملك عبدالعزيز الرياض تمت في حفل مهيب وودع وداعا حافلا واصطفت ثلة من الجند لتأدية التحية للملك، ومع ذلك ظلت البساطة هي السمة الغالبة على برنامج وداع الملك عبدالعزيز في الرياض.
الالتقاء بالملك في الطريق
نجد أن تلقي الملك عبدالعزيز واستقباله في الطريق قبل وصوله بمسافة قد تصل إلى نحو 150 كيلو مترا أو أكثر، من التقاليد العريقة التي يحرص عليها الجميع، فيقوم بذلك أهل الحجاز عندما يتوجه إليهم كما يقوم به أهل نجد عندما يتوجه إليهم.
إذ إننا نجد أن الأمير فيصل بن عبدالعزيز نائب الملك في الحجاز وبمعيته بعض موظفي الحكومة والأهلين يكونون دائما في انتظار ركاب الملك في عشيرة التي تبعد عن مكة نحو 150 كيلو مترا، إذ كان النائب العام يأمر بإعداد مخيم كبير هناك لتأمين راحة الملك، ومن معه من الأمراء والأسرة المالكة، ويتم استقباله هناك على الرحب والسعة وتقديم واجب الضيافة الذي يليق بمقامه، وربما ألقيت بعض القصائد والكلمات، والاستقبال في عشيرة من الترتيبات الراسخة التي لا يتم التخلي عنها حتى لو كان النائب العام في مهمة خارج البلاد، باستثناء عام 1937، إذ نلاحظ أن النائب العام الأمير فيصل هذه المرة على غير عادته قد استقبل الملك في السيل وليس في عشيرة، ولا شك أن ذلك تم بطلب من الملك عبدالعزيز لكي لا يكلفهم عناء السفر ومشقته في شهر رمضان الذي قرر أن يؤدي فيه مناسك العمرة في ذلك العام.على أن النائب العام ونجله الأمير عبدالله ومن معهم من كبار موظفي الحكومة وأعيان الحجاز، ربما يحدوهم الشوق للقاء الملك فيتقدمون من عشيرة إلى المويه للسلام عليه والترحيب بمقدمه. وفي أحد الأعوام تقدم الأمير فيصل وبرفقته نجله الأمير عبدالله لاستقبال والده إلى مرحلة أبعد، حيث وصل إلى وادي الجرير - نحو 400 كيلو متر من مكة - وتشرف بلثم أيادي والده الملك ثم عاد في اليوم التالي إلى عشيرة.
وفيما لا يقتصر استقبال الملك في الطريق على سكان مكة وحدهم، بل نجد أيضا أن أعيان الطائف وجدة يخفون أيضا إلى عشيرة للمشاركة في استقبال الملك والترحيب به، فعلى الجانب الآخر نجد أن وكيل إمارة المدينة المنورة ورؤساء دوائرها وأعيانها ورجالات الحكومة في الحجاز وبعض العلماء ورؤساء القبائل والوفود، عندما يعلمون بقدوم الملك عبدالعزيز من نجد إلى المدينة يخفون إلى الصويدرة التي تقع بين المدينة والقصيم، للترحيب بمقدمه هناك وتنصب السرادقات لاستراحة الملك، ويعد شيئا من الضيافة وتلقى بعض الكلمات والخطب.
وكذلك في إياب الملك من الحجاز إلى نجد يقوم أهل الرياض باستقباله في الطريق قبل وصوله إلى الرياض بمسافة طويلة، فما أن يصلهم خبر توجه الملك إليهم إلا ويقوم الأمير سعود، أكبر أنجال الملك، ومن معه من الأمراء والأعيان، بركوب سياراتهم والسير لموافاة الملك في الطريق، ينهبون الأرض نهبا لاستقبال القادم الكريم، بل نجد أن الأمير سعود في عام 1929 يخرج لاستقبال الملك في الخفيفية على بعد نحو 250 كيلو مترا من الرياض في موكب احتفائي كبير يتكون من نحو 60 سيارة.
وفي رحلات أخرى، لاحظنا أن الأمير سعود ومن في معيته يستقبلون الملك في مرات أو قريب منها على بعد 140 كيلو مترا تقريبا من الرياض. وفي بعض الرحلات كانت جماهير غفيرة من الأهلين والقبائل تستقبل الملك في ضواحي الجبيلة على بعد نحو 50 كيلو مترا من الرياض.
كيف يستقبل الملك عبدالعزيز في الحجاز؟
كان قدوم الملك عبدالعزيز من نجد إلى الحجاز في كل عام يشكل حدثا كبيرا مبهجا تصاحبه كثيرا من المظاهر المعبرة عن الولاء والإخلاص في مدن الحجاز، خاصة في مكة المكرمة، فما أن يصل خبر توجه الملك من نجد إلى الحجاز إلا وتصبح البلاد في حركة كبرى للشروع في اتخاذ التدابير لاستقبال الملك استقبالا فخما يليق بمقام المليك ويدل على تعلق الرعية بالراعي. فكان أهل مكة المكرمة يؤلفون لجنة لتنظيم حفلات الاستقبال التي تقام احتفاء بعودة الملك وتوالي اجتماعاتها بالتنسيق مع البلدية ثم تضع البرنامج الخاص الذي تجري الترتيبات بموجبه. فتلبس العاصمة المقدسة أروع حلة من البهجة والحبور، وتغمر الناس موجة رائعة من الفرح والابتهاج، فبمجرد قدوم الملك تتجلى في مهرجانات الأدب والشعر والخطابة، ومجالي الحفاوة والتكريم الموجه إلى مقامه العالي فتلتقي المواسم وتتعاقب الأعياد وتمتزج المشاعر في البلد الحرام والشهر الحرام بين مناسك الحج وتلبية الحجاج، وتتلاقى بهجة عيد الأضحى بطلعة المليك المحبوب الذي ضرب الأمن في عهده أطنابه وتهيأت الإمكانات كافة لخدمة ضيوف الرحمن، فنعم الجميع بالراحة والاطمئنان.
ومن تلك الترتيبات التي تتم عادة، إقامة الأهالي معالم الزينة ونصب الأقواس ورفع الأعلام العربية الخضراء في الأحياء والشوارع، وتزدان دار الحكومة والدوائر الرسمية والمعاهد العلمية بالأعلام والأقواس البديعة واللافتات التي يكتب عليها عبارات الترحيب والاحتفاء، مثل عبارة "فليحيا جلالة الملك". كما يقام أمام الديوان الملكي عواميد تتصل ببعضها بعضا لتلف عليها الأعلام وتعلوها الأضواء الكهربائية المبهرة، وفيما تتولى لجنة الاستقبال نصب السرادقات الفخمة في المكان المخصص لاستقبال الملك عند قدومه، والذي كان في أول عودة للملك إلى الحجاز عام 1927 "ميدان العدل" بالمعابدة، فيما أقيم الحفل الرسمي في اليوم التالي في الديوان الملكي بأجياد، والتي ألقى فيها الشاعر أحمد الغزاوي أولى قصائده الحولية العصماء التي سيستمر بعد ذلك في إنشادها في حفلات استقبال الملك كل عام، إذ قال:
نعمت بأوبك مكة وبطاحها
واخضر واديها وسح شحاحها
حنت إليك فلو أطاقت مرتقى
لسمت إليك بها الغداة رياحها
أوليتها مننا تقلد جيدها
بعقودها وبها استدار وشاحها
أمنت خائفها وشدت صروحها
وبها استنار غدوها ورواحها
فيما خصصت في الأعوام اللاحقة الساحة الكبرى الواقعة أمام الثكنة العسكرية في "محلة جرول" لمراسم الاستقبال والاحتفاء بقدوم الملك والترحيب به في مكة المكرمة، وإقامة أقواس النصر من جرول حتى القصر الملكي في المعابدة، والتي تصل إلى خمسة أقواس، وكذلك تقام الأقواس أمام قصر نائب الملك، ومن ساحة العدل حتى بناية الديوان الملكي في أجياد. وكانت أمانة العاصمة هي الجهة التي تشرف على تنفيذ وتنظيم برنامج الاستقبال وتتحمل العبء والمسؤولية، ولذا فإنه عندما طلب الأهالي من أمين العاصمة محمد يحيى عقيل في أحد الأعوام رئاسة وفد مكة المكرمة لاستقبال الملك عبدالعزيز في المدينة المنورة، اعتذر بسبب اشتغاله في إتمام استعدادات استقبال الملك في مكة المكرمة.
وبالإجمال، فإن مكة المكرمة تلبس مع قدوم الملك حلة قشيبة من الزينة ويتبارى الأهلون في الأحياء والشوارع في إقامة معالم الزينة، وكانت الأنوار الكهربائية تسطع والأعلام العربية الخضراء ترفرف فوق المباني والبيوت، وأقواس النصر تمتد على طول الطريق وتظل البلاد ترفل في زينتها وأفراحها مدة ثلاث ليال. وكانت أمانة العاصمة تعنى بفرش الأماكن والسرادقات المعدة للجلوس في ميدان جرول وترتب الميدان ترتيبا بديعا وتزينه بالأعلام العربية من كل جانب. كما كانت لجنة الاستقبال تعلن للخطباء والشعراء الذين يريدون إلقاء قصائدهم وخطبهم أمام الملك أن يراجعوها لأجل الاتفاق على مواعيد الإلقاء، بينما كان الشاعر أحمد الغزاوي هو صاحب القصيدة الثابتة في استقبالات الملك عبدالعزيز.
ومن المراسم والبروتوكولات الدائمة لاستقبال الملك عبدالعزيز في مكة المكرمة إضافة إلى ما سبق الإشارة إليه، اصطفاف الجنود على جانبي الطريق الذي يمر به الموكب الملكي وإطلاق المدفعية من قلعة أجياد عند قدومه، وكان حضور حفل الاستقبال في جرول الذي يتم عادة في اليوم التالي لوصول الملك، يتم بناء على دعوات رسمية من أمانة العاصمة للمسؤولين والوفود والأعيان والشخصيات.
فكانت تلقى الكلمات والخطب والقصائد ويشارك تلاميذ المدارس بأناشيدهم وفق برنامج محدد، ثم إن الملك يوجه في نهاية الحفل كلمة إلى الحاضرين لا تخلو عادة من التأكيد على الالتزام بتعاليم الدين وبعض النصائح والإرشادات. وكان الملك يقدم إلى جرول عن طريق ثنية كداء ويعود بعد نهاية حفل الاستقبال إلى القصر الملكي بالمعابدة عن طريق حارة الباب فأجياد فشعب عامر ثم المعلاة فيجد الناس مصطفين يجتلون طلعة مليكهم المحبوب مرحبين به، فيحييهم ويحيونه هاتفين له بالنصر والتأييد، كما حدث في بعض الأعوام، وفي أعوام أخرى يرجع مع ثنية كداء.
وفيما استمرت إقامة حفل الاستقبال في جرول في صباح اليوم التالي لقدوم الملك إلى مكة المكرمة بشكل عام خلال الفترة 1928 - 1936 فقد كان من التقاليد بعد نهاية حفل الاستقبال أن يقوم الملك في تلك الساحة بمشاهدة سباق للخيل أو استعراض الجيش والقوات العسكرية، وربما أقيمت العرضة وشارك فيها الأمراء، إلا أن مكان حفل الاستقبال انتقل إلى القصر الملكي بالمعابدة خلال الفترة 1936 - 1945 وكانت تقام فيه عادة مأدبة في مساء قدوم الملك، بينما يقام حفل الاستقبال الرسمي في صباح اليوم التالي.
وابتداء من عام 1942 أصبحت السرادقات تقام في الشرائع لاستقبال الملك والترحيب به والسلام عليه هناك قبل دخوله مكة المكرمة ثم ينتقل الجميع إلى القصر الملكي الذي يستريح فيه الملك قليلا ويستقبل المسلمين الذين ينتظرونه هناك قبل ذهابه إلى الحرم لقضاء نسكه لأنه لم يدخل مكة المكرمة قادما من نجد إلا محرما لحج أو عمرة.
وهذه المظاهر والمراسم التي كانت تتم في مكة المكرمة سنويا كانت تتم على نحو أو آخر في مدن الحجاز الأخرى إذا قصدها الملك عبدالعزيز أو مر بها في طريقه إلى مكة المكرمة.
لذا، فإن أهل المدينة المنورة ما يكاد يبلغهم نبأ عزم الملك على زيارتها حتى يشرعوا في إقامة معالم الابتهاج والاستعداد لملاقاته، فتنصب أقواس النصر على "محطة العنبرية" التي تكون مكانا لحفل الاستقبال عادة وترفع عليها الأعلام العربية وتفرش المحطة بأفخر الأثاث لتستقبله هناك الجماهير التي لا يحصى عددها، وتلبس المدينة حلة قشيبة من الزينات وتقام معالم الأفراح في نواحيها احتفاء بمقدمه، كما تقام عدة أقواس في مختلف الشوارع التي يمر بها ركاب الملك وتزدان بالأعلام وجريد النخل، فيما تتهدل الأستار من هاتيكم الأقواس الجميلة وقد كتب على بعضها كلمات الترحيب والإجلال بمناسبة مقدم الملك، كما علقت الألواح مكتوبا عليها أماني الشعب بدوام الملك ودوام عزه وتأييده.
وفي جدة، نلاحظ في أحد الأعوام تأليف لجنة تحت رئاسة قائم مقامها للقيام باتخاذ الأسباب لاستقبال الملك يوم تشريفه، فباشرت اللجنة في نصب أقواس النصر وإقامة الزينات في الشوارع التي سيمر منها الموكب الملكي كما بدأ الأهلون في إقامة معالم الزينة في أنحاء المدينة احتفاء بقدوم الملك. وبينما يكون حفل استقبال الملك عادة في سرادقات تنصب خارج سور المدينة في ساحة الثكنة العسكرية، فإن أهل المحال يتبارون في إظهار حبورهم بشتى المظاهر، من دق الطبول المثيرة للبأس والقوة وبين الأناشيد الحماسية وأهازيج الفرح.
وفي الطائف أيضا كانت تقام الزينات وترفرف الأعلام العربية على الدور والمحال التجارية اغتباطا عند قدوم الملك، وكان حفل الاستقبال يقام في "جبرة"، كما كان الجيش العربي السعودي يقيم عادة حفلة استعراض بهذه المناسبة، كما كان الملك يستقبل الناس في قصر شبرا.
حج الملك عبدالعزيز
اعتاد الملك عبدالعزيز منذ توليه الحجاز أن يشهد حج بيت الله الحرام في كل عام، إلا أنه في عام 1360هـ غاب عن الحج لأول مرة، وكان لذلك أسباب اقتضتها حكمته وتقديره للمصلحة العامة في ظل أزمة اقتصادية دولية، إضافة إلى نقص ظاهر في وسائط النقل، وهو ما جعل الحكومة تخفض عن الحجاج ربع النفقات المقررة تخفيفا عنهم ومساعدة لهم.
وقد وجه الملك على أثر ذلك كتابا إلى أهل الحجاز موضحا فيه أسفه لتخلفه عن الحج في هذا العام الذي سيمنعه من رؤية بيت الله الحرام ومن الوقوف في المشاعر المقدسة، كما سيمنعه من الاجتماع بهم، ولكن حرصا منه على المصلحة العامة ورغبة منه في الاحتفاظ بالنفقات التي ينفقها في حجه لتوزع على الفقراء والمعوزين من أهل البلاد، لم يسعه إلا ترجيح التخلف عن القدوم، راجيا من الله أن يهيئ له الفرصة للتشرف برؤية بيت الله الحرام والاجتماع بهم، وآملا منهم ألا يحرموه من صالح دعائهم في بيت الله الحرام والمشاعر المقدسة، وداعيا الله بقبول صالح الأعمال من الجميع.
وما كاد الشعب في الحجاز يقرأ ذلك النبأ حتى صدمته المفاجأة وعمه الأسى ورفعت البرقيات إلى الملك من مختلف الجهات والطبقات حاملة في ثناياها تأثر الأمة عن بكرة أبيها إزاء تخلف الملك عن هذا الموسم، وتقديرها العميق لعناية الملك بشعبه وحرصه عليهم من الوجوه كافة وفي كل الأحوال، فيما ناب الأمير فيصل بن عبدالعزيز عن والده الملك في قيادة الحج لأول مرة.
مشهد الوداع في مكة المكرمة
كان لتوديع الملك عبدالعزيز في مدن الحجاز وخاصة مكة المكرمة، مراسم وبروتوكولات معتادة في كل عام، ولكن كان لطواف الوداع الأولوية التي ما انفك الملك حريصا عليه التزاما بهدي الرسول - صلى الله عليه وسلم، وتأكيدا لما يتسم به من التقوى وشدة التمسك بجناب الدين، فلم يخرج من مكة المكرمة طيلة حياته إلا وكان طوافه بالبيت العتيق آخر عهده بها، وكذلك في المدينة المنورة، فإن آخر عهده بها إنما يكون الصلاة في المسجد النبوي.
فنجده على سبيل المثال في مكة المكرمة عام 1929 يأمر بالتجهيز للرحلة ثم يتحرك بسياراته من القصر الملكي في "المعابدة" إلى بيت الله الحرام، فيجد عند وصوله الجنود قد اصطفوا ليأخذوا له التحية، في حين يستقبله في مدخل الحرم الأغوات والموظفون، وبعد أن يطوف طواف الوداع ويخرج من باب الحرم تقابله الجماهير الغفيرة التي جاءت لوداعه فيصافحهم جميعا ثم يسير ركابه راجعا إلى القصر الملكي، بينما تكون الجماهير مصطفة على جانبي الشوارع الممتدة بين الحرم والقصر تحيي الملك في الذهاب والإياب، فيشرف بنفسه على الترتيبات الأخيرة للرحلة، ثم يتابع سيره إلى ميدان "المعابدة" حيث أقامت البلدية سرادقا ممدودا منمقا، بينما كانت على جانبي الشارع الممتد من القصر إلى السرادق كتائب الجند والشرطة مصطفة لأداء التحية، وما أن وصل الركب إلى مكان السرادق حتى ترجل الملك وسار إلى السرادق، حيث استقبله المحتشدون لوداعه، وقد جلس الملك في صدر السرادق وتناول القهوة والمرطبات، ثم ألقيت الخطب والكلمات والقصائد، ثم تقدم المجتمعون يودعون الملك ويدعون له بالتوفيق في الظعن والإقامة، فكان يقابلهم بلطفه المعهود، وبعد ذلك امتطى الملك سيارته الخاصة ومن ورائها السيارات الأخرى ثم سارت باسم الله مجراها. وفي بعض الأعوام يكون الوداع في دار الحكومة كما حدث في عام 1931، ولكن مراسم الوداع أصبحت منذ عام 1933 تجرى بشكل ثابت في القصر الملكي في المعابدة قبل أن يتوجه الملك إلى الحرم، إذ يتوافد الناس على القصر بمجرد علمهم بعزم الملك على السفر إلى نجد لسلام الوداع واجتلاء طلعة الملك قبل المغادرة والتعبير عن محبتهم وإخلاصهم وأسفهم لفراقه. وبعد ذلك أدى التنظيم البروتوكولي إلى إقرار تقليد سنوي يتمثل في إقامة مأدبة ملكية وحفل خطابي بهذه المناسبة في القصر العالي في "المعابدة" في اليوم السابق للسفر أو في ليلته، يحضرها كبار رجالات الدولة ورؤساء الإدارات والأعيان والوفود بناء على دعوات خاصة من أمانة العاصمة، وتلقى في هذا الحفل الكلمات والقصائد، ثم يوجه الملك في نهايتها كلمة للشعب يحث فيها عادة على التمسك بأهداب الدين الحنيف والاقتداء بالسلف الصالح في الأقوال والأعمال، ويدعو إلى الألفة والمحبة وتوثيق رابطة الإخاء والتواد بين أفراد الشعب، ويكون لمثل هذه الكلمة الضافية من الملك أكبر الأثر في نفوس الحاضرين، ومن قصائد الشاعر أحمد الغزاوي في وداع الملك في مثل في أحد الأعوام:
يا أيها الملك الذي
تاريخه بهر الأمم
والمشفق البر الرحيم
الناصح العالي الشمم
لك في الحجاز مكانة
شيدت على أقوى الدعم
الود فيها خالص
مهما تبين واكتتم
فلئن بعدت، ولا بعدت
فأنت أقرب للحرم
وقال الغزاوي في عام آخر:
كل أمر نطيع فيه المفدى
ليس منا سوى الذي يفتديه
غير وجد الفراق؛ ما من جناح
حين نضطر - أن نعاصيه - فيه
ثم يقتادنا الرشاد فنهدى
ونرى الخير في الذي يرتئيه
وفي جميع الرحلات يعد للملك في بعض محطات الطريق، كالشرائع أو السيل أو عشيرة سرادقات للاستراحة والطعام والمبيت، ويسير النائب العام الأمير فيصل، وفريق من كبار الموظفين والأعيان عادة في ركاب الملك مشيعين له حتى يودعونه في محطة عشيرة لأنها المحطة الأخيرة التي ينطلق منها الملك في طريقه من الحجاز إلى نجد، وهناك من يودع الملك في محطات أقرب كالشرائع أو الزيمة أو السيل.
مشهد الاستقبال في الرياض
يتسم استقبال الملك عبدالعزيز في الرياض بالبساطة والهدوء، فليس هناك زينة ولا أقواس ولا أضواء ولا طبول ولا أغان، ولكنك ترى الزينة في قلوب الناس بادية آثارها في وجوههم فرحا وفي أعينهم بشرا بقدوم الملك المحبوب، فيصطف الرجال والأطفال والنساء في الطريق يحيون القادم الكريم بقلوبهم وجوارحهم، ويلفت النظر هنا مشاركة النساء في استقبال الملك في الرياض، والتي نصت عليها المصادر، بينما لا نجد أي إشارة إلى مشاركة النساء في استقبال الملك في الحجاز. وعند وصول الملك إلى القصر الملكي يجد بانتظاره عند مدخل القصر جمع غفير من الأهلين فيقف لهم، وكلهم يصافحه ويهنئه بسلامة الوصول، فيقابلهم بما اتصف به من الأنس والدعة، وفي داخل القصر يستقبل العلماء والكبراء والأعيان ويكون في مقدمة مستقبليه في الرياض دائما الأمير سعود، أكبر أنجاله وولي عهده، وبعد أن انتهاء مراسم السلام العامرة بالحفاوة والإجلال.
في حين كان أول عمل يقوم به الملك عند قدومه إلى الرياض من أي سفر هو الاتجاه مباشرة إلى قصر والده الإمام عبدالرحمن الفيصل للسلام عليه - قبل وفاته - بل بلغ من بره بوالده أنه عندما يكون على بعد مسيرة يوم الرياض، فإنه يرسل بشيرا إلى والده يشعره بوصوله سالما إلى ذلك الموضع وبموعد وصوله إلى الرياض، فإذا كان على بعد غلوة من الرياض، أرسل من يبشر والده أيضا بأنه على وشك دخول المدينة، ثم تقف السيارات على باب الإمام ويستأذن الملك بالدخول، ويدخل بكل أدب وخشوع حتى يصل إلى والده فيقبله بين عينيه ويجلس بين يديه بكل إجلال واحترام، ويسأل والده عن صحته وراحته وهو متيقظ لأي بادرة من أبيه ليسرع في تنفيذها، ليدور بعد ذلك حديث الإشفاق والتحنان بين الوالد وأبيه. ولذا، فلا نستغرب شعور الحزن الذي انتاب الملك عبدالعزيز عند عودته للرياض أول مرة بعد وفاة والده الإمام عبدالرحمن بنحو ثلاثة أشهر، والذي عبر عنه بطريقته الخاصة في تلك المرة، إذ لم ينبئ من في الرياض عن تحركه من الحجاز على غير عادته من قبل، وذلك ليخفف من مظاهر السعي في استقباله والاحتفاء به، بينما ألم فقد والده ما زالت تحييه ذكريات قدومه للرياض وهو غير موجود.
وكان لذلك الملك الإنسان قريبات من كبريات النساء سنا، كان يسارع إلى زيارتهن في بيوتهن بعد زيارة والده لإلقاء التحية وإدخال السرور على قلوبهن، ومن بينهن عمة له من بنات الإمام فيصل بن تركي، كانت أكبر من في الرياض سنا يجلها ويحترمها كثيرا.
على أن الاستقبال في الرياض وإن خلا من معالم الزينات ومظاهر الفرح في الشوارع والمباني التي قد يظن أن الإنفاق عليها كان مكلفا، فإن إنفاق الأموال كان يتم بغير حساب على الموائد الحافلة التي يأكل الفقراء والمعوزون على أطرافها ويبتهجون بها. وفي أعوام لاحقة تطورت مظاهر الاستقبال نوعا ما، إذ نجد الأهلون يقيمون في عام 1934 احتفالا بمناسبة قدوم الملك تتخلله عرضة نجدية بديعة وسباقا رائعا للخيل العربية الأصيلة. أما في عام 1945 فقد أقيم في اليوم التالي لوصول الملك احتفالا مهيبا لم يسبق له مثيل، مؤذنا بدخول البروتوكولات العصرية إلى الرياض، فقد نصبت في ميدان "قصر المربع" السرادقات الكبرى وفرشت فيها البسط العربية الثمينة ومئات الكراسي الممتازة، وامتدت أمام تلك الساحة الفسيحة أقواس النصر وعليها الزينات والأعلام الجميلة، فاحتشدت الجموع المؤلفة على اختلاف طبقاتها، وفي مقدمتهم الأمراء والعلماء وأعيان البلاد ورؤساء الدوائر الرسمية والموظفون، وشيوخ البادية ووفودها ووفود البلدان والقرى المجاورة، يعلو وجوههم البشر والسرور، فكان مشهدا رائعا واحتفالا عظيما، واصطف على جانبي الطريق جنود الدفاع والشرطة وطلاب مدرسة "دار الأيتام" والمدارس الأخرى. وفي الموعد المحدد، أطلقت المدافع إيذانا بتشريف الملك، فاستقبله الحاضرون وتشرفوا بالسلام عليه، فكان يقابلهم بالبشر والبشاشة، ثم ألقى على الحاضرين بعد جلوسه دررا من أحاديثه الشيقة ونصائحه الرشيدة الثمينة التي كان لها أحسن الأثر في نفوسهم. ثم شهد الملك عرضا عسكريا رائعا قام به جنود الدفاع والشرطة في نظام بديع الشكل، كما أقيمت أمامه عرضة عربية كبرى قام بها رجال أهل الجهاد، اشترك فيها رجال الحاشية الملكية بملابسهم الزاهية وهزجوا فيها بأناشيدهم الحماسية المثيرة للشجاعة والبسالة.
اللاسلكي والطائرات في رحلات الملك
بينما كان اللاسلكي موجودا في الحجاز قبل العهد السعودي، فإن دخوله إلى نجد تأخر بسبب معارضة بعض المتشددين، فكان التواصل بين نجد والحجاز في البداية يتم عن طريق البريد البري، وفي الأمور المستعجلة قد يرسل رسولا من الرياض إلى شرق البلاد لإرسال برقية عن طريق البحرين إلى الحجاز، والعكس بالعكس، فيما كانت إدارة البرق في البحرين لا تنقل البرقيات بغير الحروف اللاتينية، وهو ما يعني أن تكتب الألفاظ العربية كتابة صوتية بالحروف اللاتينية فربما وقع بعض الخلل في فهم المقصود، ولذا فإن الملك عبدالعزيز أدرك بحكمته وبعد نظره في وقت مبكر أن وسائل الاتصال الحديثة هي الحل الأمثل لقهر المسافات المتباعدة ويمكن من خلالها اطلاعه على أحوال بلاده والوقوف على الأحداث وتدبير الشؤون في وقت قصير جدا، ما يساعد على معالجة الأمور واتخاذ القرارات بشكل سريع دون الانتقال من مكان إلى آخر، فسعى حثيثا إلى تأسيس شبكة للاتصالات اللاسلكية عبر بلاده في أول ثلاثينيات القرن الماضي تتكون من مجموعة من المحطات وربطت جميعا بالوحدة اللاسلكية المتحركة التي تحملها سيارتان من نوع "فورد" تصحبان الملك في جميع رحلاته، وكانت تسمى "الشنطة الملكية"، بحيث يبقى الملك على اتصال لاسلكي مباشرة مع جميع المحطات أينما حل أو ارتحل داخل بلاده. وأول إشارة وقعنا عليها إلى مرافقة سيارة اللاسلكي للملك في رحلاته كانت في رحلته من نجد إلى الحجاز عام 1931.
أما الطائرات فالمقصود منها هنا ليس سفر الملك عبدالعزيز بواسطتها، الذي تأخر إلى عام 1945، إنما مشاركتها في استقباله عند قدومه من نجد إلى الحجاز، فقد حدث في عام 1936 حدثا يمكن اعتباره استقبالا احتفاليا نوعيا لم يسبق حدوثه قبل تلك المرة، إذ إنه بعد مغادرة الركب الملكي للمويه حلق سرب من الطائرات العربية السعودية فوق الموكب في موضع بين ركبة وعشيرة احتفالا بتشريفه وتعبيرا عن السرور بقدومه، وتكرر هذا المشهد الاحتفالي مرة أخرى في عام 1940.
الوفود والاجتماعات
أما استقبال الوفود، فإن الملك لا ينفك عن مقابلتها في كل محطة من محطات الطريق، سواء كان مغربا أو مشرقا، ولا يمكن أن يتجاوز أثناء مسيره فردا أو جماعة، وهذا من الأمور المعتادة لديه بحكم علاقته الوثيقة برعيته، فإذا جاء إلى مكان إقامة الملك في محطات الطريق وفد من الوفود أو الضيوف أو الزوار، كان في استقباله مسؤول الضيوف أو رئيس التشريفات إبراهيم بن جميعة، فيسأل القادم عن اسمه وبلده وعمن في معيته وغرضه من القدوم، ويكتب ذلك في ورقة ويقدمها للملك فيؤذن لهم ويجلسون على منزلتهم، وبعد تناول القهوة يخرجون ويؤمر لهم بأعطياتهم وضيافتهم كل بحسب مقامه، وإذا كان لأحد شكاية أو أمر، كتبه في ورقة وأعطاها لابن جميعة ليرفعها إلى الملك فينظر في أمره ويوجه بما يلزم. أما أبرز الاجتماعات التي تمت في أثناء رحلات الملك عبدالعزيز بين نجد والحجاز، فهو مؤتمر الدوادمي الذي عقده أثناء رحلته من الحجاز إلى نجد في عام 1348هـ/ 1929 الذي تم من خلاله اتخاذ بعض القرارات بشأن الخارجين على الطاعة قبل معركة السبلة.
وكذلك في رحلته من الحجاز إلى نجد عام 1355هـ/ 1936 أقام الملك عبدالعزيز في عشيرة مدة شهر كامل للإشراف على أعمال الحكومة، وعقدت تحت إشرافه هناك عدة اجتماعات برئاسة النائب العام في الحجاز الأمير فيصل بن عبدالعزيز، وبحضور مندوبي مجلس الشورى وغيرهم من رجال الدولة، وبحث في هذه الاجتماعات الأنظمة والترتيبات الواجب اتخاذها لسير الأمور في المملكة وتنظيم الأعمال فيها وتوزيع المسؤوليات بصورة تكفل راحة الجميع، وقد رفعت نتائج تلك الاجتماعات بعد انتهائها إلى الملك عبدالعزيز لتصديقها ووضعها موضع التنفيذ.
الصيد والنزهة
نجد الملك عبدالعزيز عندما تسنح الفرصة ويلائم الوقت يقضي بعضا من وقته أثناء رحلاته بين نجد والحجاز في ممارسة هوايته العربية الأصيلة، ألا وهي القنص، كيف لا وهو الخبير بأماكن تواجد الصيد بمختلف أنواعه في طريقه الطويل، إذ نجده في إحدى رحلاته بعد وصوله إلى ركبة في طريقه إلى المويه ينفرد عن الموكب مع سيارتين ورائه من خدمه ابتغاء القنص، وظل يتبع الآرام في ذلك الميدان الفسيح السهل المنبسط من الضحى إلى وقت العصر، ثم اتجه إلى المويه ليلتقي بالموكب هناك. وفي رحلة ثانية، نجد الملك ينفرد عن الركب بعد تحركه من ذريع بعد الظهر وظل يصطاد في الطريق إلى المساء، حيث وصل إلى عشيرة بعد غروب الشمس. وفي رحلة ثالثة، غادر الملك عشيرة إلى الصيد والقنص، بينما انتقل المخيم الملكي إلى المويه ليعود الملك من رحلة الصيد إلى المويه ويبات فيها. وفي رحلة رابعة، نلاحظ أن ركب الملك يغادر عشيرة إلى المحدثة بهدف الصيد والقنص فيقيم فيها ثلاثة أيام ثم يغادرها إلى المويه. وفي رحلة أخرى، نجد الملك يقيم في ضواحي سجا أربعة أيام قضاها بالصيد والقنص. كما نجده قبل ابتداء بعض رحلاته من نجد إلى الحجاز مقيما في روضة الخفس للنزهة والترويح عن النفس والصيد والقنص.
الولائم والدعوات
من صفات الملك عبدالعزيز النبيلة صفة التواضع، فما كان هناك كلفة ولا حواجز بينه وبين أفراد شعبه، فكان يتعامل معهم بشكل مباشر تعامل الأب الشفيق والأخ الشقيق والابن الرفيق دون أن يضع فوارق طبقية بين الحاكم والمحكوم، وكان يعطف عليهم ويبادلهم المحبة الصادقة دون تصنع، كيف لا وهم يخاطبونه باسمه وكنيته دون ألقاب الملك والسلطان أو ألفاظ التفخيم والتعظيم، ويأكلون معه الطعام على مائدة واحدة ويبثونه شكواهم ونجواهم، ولذا فقوة ارتباط الشعب بالقائد في المملكة تستند قبل كل شيء إلى قاعدة من مكارم الأخلاق العربية التي فرضت المكانة العالية لآل سعود في نفوس الناس. من هذا المنطلق، نلاحظ أن الملك عبدالعزيز يحرص أثناء رحلاته على توثيق العلاقة مع بعض أفراد شعبه، وخاصة الشيوخ والأعيان، تقديرا لهم ورفعا لمكانتهم، ولذا فهو يلبي دعوات بعضهم على الولائم أو غيرها، كما يبيت أو يستريح أو يقيم في بيوت بعضهم الآخر، ثم يكرمهم بالعطايا والمزايا. ومن هؤلاء على سبيل المثال وليس الحصر: شيخ القضيمة محمد بن عبدالرحيم، وشيخ رابغ إسماعيل بن مبيريك، وابن مسعود أمير الشعراء، وابن دايل أمير مرات، وأمير الزيمة أحمد القناوي، ومحمد نصيف في جدة، وعبدالعزيز ومحمد الخريجي في المدينة المنورة، وحمزة غوث في المدينة، ووكيل أمير المدينة، وأمير الطائف، ووزير المالية، وغيرهم.
رجال المعية
فيما عدا رحلة الملك الأولى إلى الحجاز التي رافقه فيها إضافة إلى الأمراء والحاشية نحو 15 لواء عسكريا من قواته، لأنها كانت رحلة استثنائية ذات مهمات سياسية وعسكرية، فإن الرحلات التالية كان لا يزيد فيها عدد معية الملك وحاشيته وحرسه وموظفيه على 150 نسمة، لكن العدد ارتفع مع ارتفاع أعداد السيارات، فوصل في عام 1928 وعام 1929 إلى نحو 500 نسمة، أما في عام 1930 فيرجح أنه تجاوز هذا العدد إلى الضعف. وبشكل عام، فإن عدد المشاركين في هذه الرحلات يزيد وينقص بحسب أعداد السيارات المتوافرة، وبحسب المواسم والظروف، ولكن لا يتصور أن ركاب ملك مثل الملك عبدالعزيز سيكون عدده قليلا في كل الأحوال.
والمرافقون للملك عبدالعزيز في رحلاته باستمرار، هم ثلاثة أقسام: الأول الأمراء، والثاني رجال المعية أو الحاشية، والثالث الحرس والخدم وغيرهم من السائقين والعمال والموظفين، ويمكن أن نلحق أيضا قسما رابعا يختص بنساء العائلة الملكية بحكم ارتباط هذه الرحلات بتأدية فريضة الحج. فكان أصحاب السمو الأمراء من إخوته الأمراء فهد ومحمد وسعود وعبدالله وأحمد ومساعد وسعد الثاني، من مرافقيه الدائمين، وإن كان الأميران عبدالله ومساعد هما الأكثر مرافقة في رحلاته، وكذلك يرافق الملك بشكل دائم أبناءه وأبناء إخوته وكذلك أحفاده في مراحل لاحقة، وكذلك عدد غير قليل من أمراء آل سعود الآخرين من أبناء عمومة الملك، في حين كان يطلق وصف رجال المعية على بقية المرافقين من العلماء والأعيان والمستشارين والأطباء وموظفي الديوان الملكي والشعبة السياسية ورجال الخاصة الملكية، وكل من هو في حاشية الملك، ومن أبرز هؤلاء الذين لا يكادون يفارقون الملك في أسفاره: يوسف ياسين، مدحت شيخ الأرض، عبدالله بن عثمان، ومحمد بن دغيثر، وإبراهيم بن عيدان، وعبدالله الشبيلي، وعبدالرحمن الطبيشي، وإبراهيم بن جميعة، وإبراهيم بن معمر، وحمد بن مضيان، ومحمد القاضي، ومحمد المانع، وعبدالعزيز المانع، ومحمد أبوعبيد، وعثمان التويجري، وعبدالرحمن بن زيد، وعبدالرحمن الشعيبي، ومحمد الصرامي، وأحمد بن مزيد، وغيرهم، ومن أسرة آل الرشيد كثيرا ما يرافقه محمد بن طلال، وعبدالله المتعب، ومشعل بن سعود، ورشيد المحيسن، وسلطان الجبر، وفهد الجبر، وغيرهم.