مغالطة عائشة

من المغالطات الشائعة في أي نقاش، المقارنة بين زمنين مختلفين أو ثقافتين بعيدتين أو ظرفين تفصل بينهما قرونا طويلا.
فليس من العدل أو الذكاء أن تسأل مثلا:
"من أكثر ثراء، قارون أم الوليد بن طلال؟"
أو "من أكثر عبقرية، الفلكيين العرب، أم الفلكيين الأمريكيين؟".
فالسؤال نفسه خاطئ وغير عادل، لكون الأول يقارن بين زمنين متباعدين، والثاني يخلط بين واقعين مختلفين. فحتى الفقير هذه الأيام يملك جوالا وسيارة وتقنيات لم يمتلكها قارون في زمانه، وحين أطلق الأمريكان تليسكوب هابل إلى الفضاء "1990" شاهدوا خلال أول عشرة أيام ما لم يشاهده علماء الحضارات القديمة في آخر عشرة آلاف عام.
المبدأ نفسه يسري على العادات والتقاليد والمعايير الاجتماعية، حيث لا يجوز المقارنة بين العادات الاجتماعية والمعايير الأخلاقية لعصرين متباعدين أو ثقافتين مختلفتين.
فحتى زمن جدتي وجدتك "وأرجو ألا يفسر كلامي كتشجيع على زواج القاصرات" كان ينظر لبلوغ الفـتاة كمؤشر للزواج ـ ولا يزال كذلك في أرياف اليمن وإفريقيا وتايلاند. وحتى 1850 لم تكن أوروبا تعرف شيئا يدعى "سن الزواج" وكانت الفتيات يزوجن فور بلوغهن لمن يدفع المبلغ الأكبر. وبسبب سطوة الكنيسة "التي تشجع على زواج الطفلات" تأخرت إيطاليا وفرنسا في تحديد سـن الزواج حتى 1892، حين رفعته إيطاليا إلى 12عاما وفرنسا إلى 13عاما فقط.
بطبيعة الحال، كان زواج القاصرات سائدا لدى العرب زمن الجاهلية والإسلام ولم يكن مستغربا أو مستهجنا حتى للأمهات. فعبد المطلب مثلا "جد الرسول" حين خطب آمنة بنت وهب لابنه عبدالله "والد الرسول" خطب لنفسه أيضا ابنة عمها هالة "وكانت في سن آمنة"، أما عمر بن الخطاب فتزوج أم كلثوم ابنة علي "رغم أنه أكبر من علي نفسه"، وحين ترملت ابنته حفصة "وهي صغيرة" عرضها على أبي بكر وعثمان "وكانوا شيوخا كبارا"، فامتنعوا عنها فطيب الرسول خاطره وتزوجها بنفسه.
مرة أخرى، أرجو ألا يؤخذ كلامي كموافقة على زواج القاصرات. فهذه الحالات لم تعد مقبولة بمعايير واقعنا المعاصر، ولا يرتضيها هذه الأيام الآباء والأمهات لبناتهم الصغيرات.
كل ما أقوله هو أننا لا نملك الحق "في هذا العصر" في محاكمة ما كان يحدث في زمن وظرف وواقع مختلف. من يفعل ذلك متعمدا يلجأ لما أسميه شخصيا "مغالطة عائشة" حيث الغرض من الاستشهاد الإساءة والطعن، رغـم فارق الزمن، وتفاوت المقـاييس، وتغير الثـقافات.
خذها نصيحة، ولا تدخل في نقاشات تتضمن مغالطات من هذا النوع. فأنت أولا غير مسؤول عما كان يحدث في القرون الماضية، وثانيا المقارنة نفسها غير عادلة، وتهبط بمستواك إلى مستوى من لا يستوعـبون الفرق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي