عندما صعد بلال على ظهر الكعبة

عندما صعد بلال على ظهر الكعبة

أيها القراء الكرام: لننظر إلى المشهد التالي:

عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ جالس بين أصحابه، يتجاذب معهم أطراف الحديث، ثم هو يقول "أما أبو بكر فسيدنا، وأعتق سيدنا"، يقول عمر هذه العبارة والذاكرة تعود به أياما مضت، يتذكر صاحبه أبا بكر، ويتذكر حبيبه بلالا.
وبلال هذا كما يعلم الصغير قبل الكبير، هو مؤذن الإسلام، ومزعج الأصنام، إحدى معجزات الإيمان الخالدات عبر الأيام.
وحينما تبصر هذا الخلود الذي منحه الإسلام بلالا، فاعلم أن بلالا هذا، لم يكن قبل الإسلام أكثر من عبد رقيق، يرعى إبل سيده على حفنات من التمر، لا حظ له في يومه، ولا أمل له في غده، تمضي أيامه متشابهة قاحلة كالحة، حتى يلحقه الموت، ويطوّح به إلى أعماق النسيان.
وأبصر بلال نور الإسلام، فتحول من رعي الغنم، إلى قيادة الأمم، وأي قيادة أعظم من أن ينادي بأن (حي على الفلاح)، وفي ذلك النداء الخالد الذي ارتبط اسمه ببلال، فقالوا: وأين أذان من أذان بلال.
وبلال هو من وضع على الجمر ليزيف اقتناعه، ويحيف عن مبادئه، ويخالف عقله وروحه، ولكنه ردد ذلك الشعار الذي لا ينسى: أحد أحد.
وبلال هو من تحررت روحه من ذل الشرك وأغلال العبودية للمخلوقين، حتى أتى السيد أبو بكر فحرره من العذاب الجسدي، ذلك العذاب الذي لم يكن ليصل أبدا إلى روح المؤمن بلال.
وبلال هو من أخبرنا أن عبودية الرقبة واستهانة الخلق لا ينالان من عظمة الروح وارتقائها إذا وجدت إيمانها، واعتصمت بباريها، وسعت في سبيل عزتها وكرامتها.
وتمضي الأيام ببلال، يتربى في عزة الإسلام، وينهل من معينه، ويؤذن بشعاره. ويدخل ـ صلى الله عليه وسلم ـ مكة شاكرا مكبرا، يعود إليها عزيزا منتصرا بعد أن أخرج منها، وينظر إلى الكعبة، فيرى ذلك المكان المقدس، وقد أحاطه المشركون بأصنام بعدد أيام السنة، فيقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمؤذنه بلال: أن أصعد على ظهر الكعبة فاصدح بنداء التوحيد.
ويخطو بلال على تلك الأرض، يمر على المكان الذي رعى فيه الغنم، ويرى المكان الذي أُضجع فيه على الجمر وهو يصرخ أحد أحد، يتجاوزها جميعا ويصعد على ظهر الكعبة.
تشخص إليه الأنظار، وترمقه الأبصار، أما من عشش فيهم الكفر وضرب عليهم بنسجه، فلم يستطيعوا احتمال المنظر واستساغة الموقف، كيف يصعد مثل هذا على أشرف مكان وأقدسه.
أما من دخل الإيمان قلوبهم فطهرها من دنس الجاهلية، وأقام مكانها صروحا من الخير والبر والمساواة، والعدل. رأى هؤلاء في صعود بلال، صعودا للكرامة الإنسانية، تمثلوا في هذا الموقف قوله تعالى: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم".
ونطق بلال وصدح: الله أكبر، الله أكبر.
كفت الحياة في مكة عن الحركة، ووقفت الألوف المسلمة تردد في خشوع وهمس كلمات الأذان وراء بلال.
وبعدها قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يودع أمته في خطاب خالد: "الناس من آدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى".
هذه هي المساواة في الإسلام، ساوى بين الخلق في أصل خلقتهم وتكوينهم وتكليفهم، وكرمهم جميعا وفضلهم، وجعل معيار التفاضل بينهم تقواهم وصلاحهم، الذي يقودهم إلى الإصلاح في الدنيا وعمارتها والسعي فيها. وهو معيار يستطيع الارتقاء إليه كل البشر، ولا يقسم الناس إلى طبقات يعلو بعضها بعضا، وهو معيار يدفع إلى الرقي والسمو بالإنسان.
ثم إن الإسلام كما ساوى بين الخلق في أصل خلقتهم وتكوينهم وتكليفهم، فإنه أتى بالتفريق بينهم: ففرق بين المسلم والكافر: (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون)، وفرق بين الذكر والأنثى (وليس الذكر كالأنثى)، وفرق بين الناس في أرزاقهم (ورفعنا بعضكم فوق بعض درجات ليتخذ بعضكم بعضا سخريا)، وفرق بين العامل والقاعد (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم).. وهذا التفريق هو أساس العدل.
هذه هي مساواة الإسلام وعدله، مساواة حقيقية، لا ترى فيها تصنعا ولا نفاقا، ليست شعارات تردد، بل تراها واقعا معاشا يطبقها المسلمون في مساجدهم، حيث يلتقي الجميع في صف واحد بين يدي الله تعالى، ثم يتقدمهم أقرؤهم، وتجدها في الحج حيث تلتقي العناصر البشرية كلها على صعيد واحد، وبثياب واحدة، وبنداء واحد من غير تمييز ولا تفريق.
ما كان صعود بلال على سطح الكعبة إلا إعلانا لكرامة الإنسان على كل شيء، وأن الإنسان يستحق هذه الكرامة لإيمانه وعلمه وعقله وأخلاقه، لا لبشرته ولا لحسبه ونسبه، فما يقدم الإنسان بياضه وحسبه إذا أخره عمله، ولا يؤخره سواده وحسبه إذا قدمه إيمانه وعمله "ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه".
عندما غلب الغضب أحد الصحابة فعير أحدهم فقال: يا ابن السوداء، أتى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: "أعيرته بسواد أمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية"، وهذا حدّ فاصل بين العلم والجهل، بين الحضارة الإنسانية والحضارة الجاهلية.
حضارتنا التي لم تعرف هذا التمييز العنصري بين البيض والسود، بل هي حضارة إنسانية تنظر إلى الناس جميعا بمنظار الحق والخير، ولا ترى البياض والسواد، بل ترى بياض الأعمال وسوادها.
كان هذا الحديث بعد أن رأينا مشاعر الفرح والابتهاج والبكاء التي غمرت أصحاب البشرة السوداء في أمريكا بعد فوز مرشحهم بالانتخابات الأمريكية، وحق لهم البكاء والفرح بعد سنوات وسنوات من الاضطهاد والإذلال.
فبعد أن كان أجدادهم يعيشون في بيوتهم وقراهم آمنين مطمئنين، أتى المستعمر الأبيض ليسوقهم في الأغلال مستعبدين مسترقين، يحملهم في جوف السفن ليرميهم في القارة الحلم، ليعملوا عبيدا في زراعة وحصد القطن الذي يكسو أجساد أسيادهم البيض.
واستمر الاستعباد سنوات وسنوات، شجعته نظريات العنصريين وتصوراتهم: فتارة يقولون إن هؤلاء دون الرجل الأبيض في "التطور والارتقاء"، وتارة يقولون: إن دراستنا أثبتت أن الرجل الأبيض أذكى من الرجل الأسود وأشد نباهة وفطنة .. وتدور عجلة العنصرية فيكون للسود مدن ومدارس، بل وكنائس!
وعندما تصل العنصرية إلى أن توضع لافتة تقول: ممنوع دخول الكلاب والسود، فهذا إيذان ببدء الثورة، وفعلا بدأت واستمرت.
وكان الفوز في الانتخابات، وهو فوز على الظلم والطغيان، وقفزة في مجال الإنسانية، وخطوة في حرب ضد الجاهلية، وعودة إلى الفطرة والكرامة، ولكن إن صعد هذا على عتبات البيت الأبيض، فقد صعد بلال ـ رضي الله عنه ـ قبلا على سطح الكعبة المشرفة .. وأين هذا من ذاك؟
وبينما نحن نتغنى بصعود بلال، ونترنم بعدل الإسلام وإنصافه، يأتي البعض فيحاول إنزال بلال، و"محاولة إنزال بلال" تكون عندما ينادى بالفخر بالأحساب والأنساب عبر وسيلة الانتقاص من الغير واحتقارهم، وتكون عندما يكون الولاء والبراء والحب والبغض مبنيا على أساس القبيلة وانتماءاتها.
لمثل هؤلاء نقول كما قال ـ صلى الله عليه وسلم: لينتهين أقوام عن فخرهم برجال أو ليكونن أهون عند الله من عدتهم من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن"، ونصرخ "دعوها فإنها منتنة".
وبينما يهلل العالم فرحا بهذا الإنجاز، وهو يتغافل عن أعظم العنصريات وأشدها وهي احتلال الشعوب وإذلالها، ويتغافل عن أقبح عنصرية وهي عنصرية اليهود الذين قصروا دينهم على أنفسهم، واختصوا أنفسهم بأنهم أولياء الله وأحباؤه وأنهم شعبه الذين اختارهم واصطفاهم، وقادتهم عنصريتهم إلى طرد الناس من بيوتهم وديارهم، وإزهاق أنفسهم وأرواحهم، بل حصارهم والتضييق عليهم.
أخيرا: إن كانت المساواة والعدل اللذين أتى بهما الإسلام أذهلا حكماء الغرب والشرق، فإن الإسلام أتى بما هو أعظم وأجل من هذا، وهو أنه جعل أتباعه إخوانا متحابين مترابطين "إنما المؤمنون إخوة".
الأخوة الإسلامية ليست علاقة شخصية، ولكنها رابطة متينة، قائمة على أساس من التقوى وحسن الخلق والبر، والتعامل بأرقى صوره وأجل معانيه، وهي دليل واضح على تلاحم لبنات المجتمع ووحدة صفوفه.
بالشام أهلي وبغداد الهوى وأنا
بالرقمتين وبالفسطاط جيراني
وأينما ذكر اسم الله في بلد
عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني
الأخوة الإسلامية التي جعلت المسلمين جسدا واحدا، إن أصيب منه عضو في المشرق، جاوبه الأنين والشكوى من المغرب، وتداعى له ذلك الجسد بالسهر والحمى.
تذوب حشاشات العواصم حسرة
إذا دميت في كف بغداد إصبع
ولو بردى أنت لخطب أصابها
لسالت بوادي النيل للنيل أدمع
من أجل تلك المعاني، كان سلمان الفارسي من آل بيت محمد، وكان بلال سيدنا.

الأكثر قراءة