لماذا لم تستجب السوق لقرار "أوبك"؟

لماذا لم تستجب السوق لقرار "أوبك"؟

إن قرار منظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك) بخفض الإنتاج متوقع، خاصة منذ قررت قبل أيام التعجيل باجتماعها لمواجهة الهبوط الحاد في الأسعار. وكانت التقديرات تتحدث عن مليون برميل يوميا، لكن الخفض جاء أكثر من المتوقع قليلا، إلا أن قرار (أوبك) خفض 1.5 مليون برميل يوميا لم يصدم الأسواق، وواصلت أسعار النفط الهبوط متأثرة بالمخاوف بشأن الركود الاقتصادي العالمي.
ولربما كان ذلك متوقعا أيضا من قبل بعض المحللين، إذ إن السوق النفطية الآن مشبعة بعرض كبير من الخام يفوق الطلب الأخذ في التراجع. وتذهب بعض التقديرات إلى أن فائض العرض عن الطلب يزيد على أربعة ملايين برميل يوميا.
بدأ التراجع الحاد في أسعار النفط في الأسابيع الأخيرة، مع زيادة حدة الأزمة المالية العالمية ليفقد البرميل أكثر من نصف سعره في غضون أيام قليلة. ومع أن الأزمة الحادة الحالية طالت القطاع المالي تحديدا، إثر انهيار القطاع العقاري الأمريكي صيف العام الماضي وما تلاه من هبوط في القطاعات العقارية في دول أوروبا الرئيسة، إلا أن التأثير السلبي لم يقتصر على أسواق الأسهم والمؤسسات المالية، بل طال بقية أسواق السلع.
وعندما بدأت أزمة الرهون العقارية الأمريكية العام الماضي وأخذت أسواق الأسهم في التخبط اتجه كثير من المستثمرين الساعين إلى الربح السريع والكبير إلى أسواق السلع، وكان ذلك أحد عوامل ارتفاع أسعار السلع الغذائية والمنتجات الزراعية نتيجة المضاربات الكبيرة من صناديق الاستثمار على عقودها المستقبلية. بالطبع كانت سوق النفط هدفا رئيسا لتلك المضاربات، ونتيجة دخول المستثمرين بكثافة إلى سوق العقود الآجلة ارتفعت الأسعار حتى زادت على 140 دولارا للبرميل في تموز (يوليو) الماضي.
ومع تعمق الأزمة المالية والانهيارات في أسواق الأسهم، بدأ المستثمرون يصفّون مراكزهم على عجل، ومنها ما في سوق العقود النفطية الآجلة، في ظل عدم اليقين المحيط بالأسواق وبوادر الركود في الاقتصاد العالمي. بالطبع كانت تصفية المراكز هبوط أسعار النفط، لكنها لم تكن مبررا لأن تفقد أسعار النفط أكثر من نصف قيمتها ليقترب سعر البرميل من 60 دولارا.
من أسباب التراجع في أسعار النفط أيضا أن أساسيات السوق من عرض وطلب أخذت في التغير نتيجة الأزمة الأخيرة وبوادر الركود الاقتصادي. وبالفعل راجعت غالبية المؤسسات توقعاتها للطلب على الطاقة بالسلب مع بوادر تراجع الطلب الأمريكي إلى أقل من 18.5 مليون برميل يوميا في الأسابيع الأخيرة، علما بأن الولايات المتحدة تستهلك ما يقرب من ربع الطاقة في العالم.
وكانت السوق قد شهدت وفرة في الإنتاج في الأشهر الأخيرة نتيجة ارتفاع الأسعار، إما استجابة لضغوط سياسية من الدول الصناعية الكبرى على (أوبك)، وإما لمحاولة بعض الدول التي لديها قدرات إنتاج إضافية ولو قليلة الاستفادة من ارتفاع الأسعار في زيادة دخولها. وحتى قبل التراجع في توقعات الطلب في الفترة الأخيرة، كان هناك دائما فائض من المعروض النفطي مقابل الطلب يزيد على مليون برميل يوميا، وهو ما قررت (أوبك) الآن سحبه من السوق.
والآن مع توقعات تراجع الطلب والانهيار الذي بدأت تعانيه شركات السيارات في العالم والركود الاقتصادي المتوقع أن يكون طويلا، يتضاعف فائض العرض بما يجعل السوق مشبعة جدا بالإنتاج ويضغط على الأسعار أكثر نحو الهبوط.
والمفارقة أننا مقبلون على الربع الرابع من العام والأول من العام المقبل، وهي فترة تشهد زيادة موسمية في الطلب نتيجة الشتاء في نصف الكرة الشمالي وزيادة الطلب على زيت التدفئة، إلا أن هذا التصحيح الموسمي ربما لا يكون كافيا لضبط أساسيات السوق في ظل معدلات الإنتاج الحالية والطلب المتوقع.
كما أن الحديث عن فك ارتباط الاقتصادات الصاعدة عن الاقتصادات المتقدمة أثبت أنه غير ذي معنى في الأزمة الأخيرة، وبدأت اقتصادات صاعدة كالصين وغيرها تتحسب لتباطؤ اقتصادي إن لم يكن ركودا أيضا.
ومن شأن ذلك أن يزيد من مشكلة تراجع الطلب على الطاقة نتيجة تراجع النشاط الصناعي والتجاري والخدمي في الاقتصادات الرئيسة المستهلكة للطاقة.
ومشكلة (أوبك) أنها لا تضم كل منتجي ومصدري النفط في العالم، وإن كانت تصدر القدر الأكبر من الاستهلاك العالمي، ومن ثم فإن خفضا في تلك الحدود قد يتم تعويضه من منتجين خارجها. كما أن هناك عامل سياسي، إذ لا تريد المنظمة أن تبدو غير آبهة بما تعانيه الاقتصادات الصناعية الكبرى من مشاكل وتخفض الإنتاج بما يضبط أساسيات السوق مثيرة هجوما سياسيا عليها.
وداخل (أوبك) ذاتها لا يوجد اتفاق محدد على هامش سعري مناسب يوافق الجميع، فعلى سبيل المثال يراوح السعر المناسب لبرميل النفط بما يلبي خطط الاقتصادات المختلفة ما بين 50 وأكثر من 80 دولارا للبرميل. كما أن فترة الوفرة النفطية جعلت الكثير من الدول المنتجة تبدأ في مشاريع كبيرة لا شك أنها ستتأثر الآن بتراجع العائدات النفطية من ناحية والركود الاقتصادي العالمي من ناحية أخرى.
وهكذا تجد (أوبك) نفسها في شبه مأزق، وسيكون عليها متابعة تطورات السوق من كثب والتداعي للاجتماع بشأن الإنتاج ربما أسرع من اجتماعها الدوري المقبل.

الأكثر قراءة