بناء ثقافة الحوار في المُجتمع ودور التعليم

ألقت رئيسة جامعة بنسلفانيا "أيمي جاتمان Amy Gutmann" أخيرا مُحاضرة في جامعة ستانفورد، وتُعتبر هاتان الجامعتان، بنسلفانيا من حيث أتت المُحاضِرة، وستانفورد إلى حيث أتت، بين أهم الجامعات على كل من المستوى الأمريكي، والمستوى الدولي. كان موضوع المُحاضرة هو "التطرف Extremism". ومن البداية أوضحت المُحاضِرة أن المقصود بالتطرف، ليس هو ما يدور في بال الكثيرين من مصطلحات مُتداولة في موضوعات السياسة وما يُقال في الحرب على الإرهاب، بل إن المقصود هو التطرف في مجالات الحياة كافة. وأوضحت من خلال أمثلة قدمتها أثناء محاضرتها أن الموقف المُتطرف، لصاحب رأي في مجال معين، هو الموقف الرافض رفضاً قاطعاً لجميع الآراء الأخرى في هذا المجال؛ أو بمعنى آخر هو الموقف "الرافض للحوار" والتواصل مع الآخرين.
ومن الأمثلة التي أوردتها المُحاضِرة حول التطرف، العداء الشديد الذي يُبديه أحد قادة الدعوة إلى "حماية البيئة" في الولايات المُتحدة تجاه كُل من يختلف معه في الرأي. ومن الآراء التي طرحتها أيضاً بشأن التطرف موضوع الصواب والخطأ، حيث بيّنت أنه حتى لو كان الإنسان مُصيباً تماماً في رأي من الآراء، فإن عليه أن يحسب ثمن هذا الصواب، لو شاء أن يفرضه بشكل قاطع على الآخرين الرافضين له. فإن كان هذا الثمن باهظاً، فليتريث ويُحاور، ورُبما يُقدم بعض التنازلات، كي لا يتجاوز الأذى الناتج عن فرض الصواب الخير الذي يمكن أن يحمله تنفيذ هذا الصواب. وأوصت المحاضرة بضرورة الحوار والتفاهم بين الجميع، وبعدم التشنج في المواقف، وخلصت إلى ما يشبه القول العربي المأثور "لا تكن قاسياً فتُكسر ولا ليناً فتُعصر".
وبصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف، كُلياً أو جزئياً، مع آراء المُحاضرة، المطروحة فيما سبق، فإن التعددية في الموضوعات، وتعددية الآراء في كل موضوع من الحقائق المهمة في حياتنا. ومن هذا المُنطلق يُصبح الحوار ضرورة. ولا شك أن الحوار مسألة فكرية، ترتبط بالمعرفة وتبادلها بين الأطراف المتحاورة. والمعرفة في أي حقل من الحقول تبدأ بالحقائق، وتنتقل بعد ذلك إلى الأفكار والآراء والنظريات وربما الفرضيات. والحوار يُوسع دائرة الرؤية أمام العقل البشري، وربما يُساعده على استيعاب الحقائق بشكل أعمق، ويُحفزه على التفكير والتروي واستنباط الحكمة أو المزيد منها.
ولكي يكون الحوار ناجحاً ويتجنب طغيان الأقوى وتمرد الأضعف، هناك مُتطلبان اثنان. أولهما نوايا الخير وتجنب الأذى، وثانيهما ثقافة الحوار في سماع الرأي الآخر ومُناقشته من دون ضرورة التنازل عن المبادئ أو تغيير المعتقدات. فنوايا الخير تحد من إغراء مُمارسة القوة على الآخر، وتحد بالتالي من تمرد الضعف على هذه الممارسة. أما ثقافة الحوار فهي في الحقيقة الثقافة التي بنت المُجتمعات وحفّزت روح الإبداع والابتكار وأقامت الحضارات وحققت التقدم العلمي والتقني الذي نشهده اليوم. فثقافة الحوار هي ثقافة التفاعل الفكري والتفاهم الإنساني. وهي باقترانها بنوايا الخير تُصبح أكثر قُدرة على العطاء، وعلى تحقيق سعادة الإنسان وتطلعاته.
إن الإنسان القادر على الحوار في بيئة نوايا الخير هو الإنسان المفكر المُستعد لتقديم ما لديه والقادر على استيعاب ما لدى الآخرين من فكر ومعارف ومهارات مُفيدة. نُريد لأبنائنا أن يكونوا كذلك، لذا لا بُد أن نغرس فيهم ثقافة الحوار في المنزل وفي المدرسة وفي العلاقات الاجتماعية. وقد باتت مسألة الحوار في إطار موضوع إدارة المعرفة في المُؤسسات وسيلة من وسائل تجميع الإمكانات المعرفية والفكرية وتحفيزها والاستفادة منها في تحقيق تطوير المُؤسسات ودفعها نحو التقدم المستمر.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي