قضايا التعليم العالي واهتمام الجميع
لا شك أن التعليم العالي يحظى باهتمام الجميع. وليس هذا الاهتمام سوى تعبير عن أهمية دور التعليم العالي في المجتمع. إنه بوضوح دور يرتقي بإمكانات الإنسان، وينهض بالاقتصاد، ويُعزز التنمية المُستدامة، ويُعطي للوطن مكانة أفضل بين الأمم. إنه دور غالباً ما يُدعى بالدور "المحفز والفاعل"، لأنه لا يقوم بذاته بمختلف الأعمال التي يحتاج إليها المُجتمع، لكنه يبقى مُتطلباً أساسياً لهذه الأعمال ولنجاحها، خصوصاً في عصر المعرفة الذي نعيش فيه. بل إن أهمية التعليم العام والتعليم العالي تزداد مع تعرض العالم للأزمة المالية الحالية وما قد يترتب عليها من أزمات أخرى - لا قدر الله. إن المطمئن أن قطاع التعليم العالي في المملكة، وخلال العشر سنوات الماضية، يعد من أكثر القطاعات تقدما ونموا، وقد احتلت المملكة المركز السابع في التعليم العالي عالميا طبقا لمجلة "الإيكونوميست" الشهيرة.
إن التعليم العالي بالنسبة إلينا في المملكة وسيلة للمستقبل في غاية الأهمية. إنه الوسيلة التي يُمكن من خلال الاستثمار فيها، لتحويل موارد النفط إلى موارد معرفية تُحقق العطاء الإنساني والاقتصادي والتنموي الذي نطمح إليه. ويلتقي هذا الأمر مع الطاقات البشرية الصاعدة والطموحة التي نملكها، والتي تُشكل جوهر التعليم العالي، وتُحقق دوره المأمول. فلا غرابة إذاً أن تهتم الصحافة بقضايا هذا التعليم، وتفسح مجال الكتابة فيه، ليس فقط أمام الصحافيين المهتمين بقضايا التعليم العالي، بل أمام الأكاديميين المُتعاملين مع هذه القضايا والحريصين على بيان آرائهم وإظهار تطلعاتهم.
إن كل رأي في العقلية الأكاديمية للتعليم العالي مُرحب به وقابل للنقاش، وربما التطبيق أيضاً، وذلك إذا ما كان يتمتع بمقومات الإقناع. ولكي يكون مُقنعاً، لا بد أن يكون هادئاً يعتمد الأسلوب الأكاديمي في الطرح، لا الأسلوب الخطابي الحماسي، أو ربما الغاضب، الذي يُمكن أن يشوش على العقل، حتى وإن أعطى أحياناً بعض المُسببات المنطقية. علينا في جميع قضايا الحياة المهمة أن نطرح مرئياتنا بأسلوب علمي هادئ نُحدد من خلاله عوامل القوة التي نملكها، إلى جانب مواطن الضعف فينا، وفرص التطوير لدينا، إضافة إلى المعوقات المُحتملة التي يُمكن أن نواجهها، وصولاً إلى توجهات سليمة للمستقبل الذي نتطلع إليه. وهذا الأسلوب بالطبع هو الأسلوب المطلوب في التعامل مع قضايا التعليم العالي.
إن طرح قضايا التعليم العالي في الصحافة غير كاف، خصوصاً إذا كان الطرح خطابياً غاضباً، أو يعتمد على معلومات غير دقيقة، أو على طرح صحافي سابق. ولا بُد من طرح علمي هادئ لهذه القضايا من خلال مؤتمرات وندوات تُقدم فيها دراسات وأبحاث حول العوامل المُؤثرة في هذه القضايا، وتجارب الآخرين في مجالاتها، إلى جانب مُقترحات مُبررة لتوجهات المستقبل. وقد قام مشروع خطة التعليم العالي "آفاق" بعقد مثل هذه المؤتمرات، إضافة إلى عدد من ورش العمل. وقد حظيت هذه المؤتمرات وورش العمل بحضور ليس فقط أكاديميين محليين، بل أكاديميين من الخارج يتمتعون بخبرات مُختلفة. كما أنها ناقشت قضايا التعليم العالي من خلال ما يصل إلى نحو عشرين محورا. ومن المتوقع أن تأخذ خطة "آفاق" طريقها إلى النشر في المستقبل القريب.
وتجدر الإشارة إلى أن وضع خطة كخطة آفاق، أو تبني نظام كنظام الجامعات المطروح حالياً، ليسا نهاية المطاف في موضوع تطوير التعليم العالي. فمتغيرات العصر كثيرة في جميع المجالات. وهذه المتغيرات تصب مُتطلباتها على التعليم العالي. وهناك بين مؤسسات التعليم العالي حول العالم مؤسسات تستجيب بسرعة، وأخرى بشكل أبطأ. ولا تكون استجابة الجميع في الغالب على نمط واحد، بل غالباً ما تختلف بين مؤسسة وأخرى. ولا يكون النجاح حليف الجميع بالدرجة نفسها، بل يختلف بين حالة وأخرى.
لا شك أن وزارة التعليم العالي في استجابتها المتواصلة للمتغيرات تُدرك أن المرونة مُتطلب مهم من مُتطلبات إدارة هذا التعليم والعمل على تطويره. إن تعديل الخطط وتطوير الأنظمة، بشكل دوري ومُستمر، من أجل استجابة مُثلى للمتغيرات، أمر مطلوب ينبغي الاهتمام به. ولا بُد من سماع صوت الجميع في هذا المجال. ولعله من المناسب أن يكون هناك مؤتمر سنوي لتطوير التعليم العالي في المملكة، يفسح المجال أمام طرح الآراء الهادئة والمستندة إلى البحث والتحليل. فمثل هذه الآراء هي وسيلة التطوير المستمر الذي يستجيب للمتغيرات بأسلوب علمي ناجع يُحقق طموحاتنا المنشودة.