احتفال أسبوعي بالحوار في صالونات بدأها مواطنون .. ويثريها المثقفون

احتفال أسبوعي بالحوار في صالونات بدأها مواطنون .. ويثريها المثقفون
احتفال أسبوعي بالحوار في صالونات بدأها مواطنون .. ويثريها المثقفون
احتفال أسبوعي بالحوار في صالونات بدأها مواطنون .. ويثريها المثقفون

منذ القرن السابع العشر الميلادي والقرن الذي تلاه ظهرت فكرة المنتديات الثقافية أو الصالونات كما أضحت معروفة في الأوساط الثقافية السعودية، حيث كان الفلاسفة والمفكرون يجتمعون لمناقشة أفكارهم الجديدة ونقد، وفي العالم العربي كانت المنتديات والمجالس الثقافية لدى الكتاب الكبار والعلماء، حتى أن الكاتب المصري أنيس منصور ألف كتابا طويلا يحكي أيامه في صالون العقاد، وفي تاريخنا العربي جرت قصص التجار والوجهاء ومجالسهم الأدبية كما جاء في كتاب طويل لأبي الفرج لأصفهاني، حين كانت المجالس مسرحا للإبداع الفني والأدبي، خاصة في عاصمة الخلافة العباسية "بغداد" كما يصف في كتابه "الأغاني".
واليوم تحتضن بلادنا ما يزيد على أربعين منتدى من شمالها إلى جنوبها، ومن الشرقية إلى الغربية، وهذا إحصاء لما ظهر منها في الإعلام، وإلا فالمجالس الثقافية أكثر من أن تحصر،
وفي العاصمة وحدها ما يزيد على بضعة عشر منتدى ثقافي، أغلبها في شمال الرياض ووسطها، وفي الغرب عدد قليل وفي الشرق منتدى معروف كبير، أما في جنوب الرياض فهناك مجلس واحد غاب عن أنظار المتابعين في الفترة الأخيرة.
ونستعرض في هذه المرة بعضا من تقاليد الصالونات الثقافية وأخبارها ليتعرف إليها من لا يعرفها، أو لينظر إليها بعض الحضور من زوايا أخرى.

#2#

التقاليد الاجتماعية

تحضر التقاليد السعودية من جهة الضيافة بالقهوة والتمر والشاي أثناء المجلس الرئيس والنقاشات، ويختم البعض المجلس بدعوة الحضور إلى العشاء في كل أسبوع، بينما يقتصر آخرون على تقديم وجبات خفيفة أثناء المجلس، وترك الدعوة إلى العشاء في المجالس التي يحضرها ضيوف من كبار المسؤولين أو أهل العلم، ويجلس في صدر المجلس عادة إلى جوار الضيف صاحب المنتدى وعريفه وكبار الضيوف الذين عادة ما يشاركون الضيف في المداخلة والتعليق.
وقد يحضر المجلس عدد كبير لم يحسب المضيف حسابه فيقتصر على ضيافة الضيوف الكبار بالتمر والقهوة، وتدور "المبخرة" في نهاية المجلس على الحضور جميعا، فينالون من التكريم ما قد يتعذر عنهم من الضيافة بالقهوة والشاي.
ويتنوع الحضور بين شيخ كبير، وشاب صغير، وبين عالم وعامي، لكن الحضور بشكل عام يتميز بمحبته للثقافة في الغالب، رغم أن "الطفيليين" قد يجدون في بعض المجالس بغيتهم من طعام أو هبات.

التقاليد الثقافية

تبدأ غالبية منتديات العاصمة بقراءة شيء من القرآن الكريم، ثم كلمة دينية قصيرة ودعاء في بعض المجالس، وبعد ذلك يبدأ صاحب المنزل في الترحيب بالضيف والحضور، ثم يتولى عريف المنتدى قراءة سيرة الضيف الذاتية، ثم يترك المجال للضيف ليتحدث في وقت يختلف بين المنتديات بين الساعة إلى نصفها.
وبعد أن ينهي الضيف كلمته الرئيسية أو محاضرته، تأتي المداخلات والنقاشات والتعليقات، وهي أحلى ما في مجالس العاصمة، حتى أن بعض الحضور قد يتعمد التأخر إلى منتصف المحاضرة أو أكثر، لكن أحدا لا يفوت ما يدور في المداخلات من أخذ ورد، وفي الغالب أن هذه المداخلات تكون مؤيدة لأن غالبية حضور كل مجلس هم في الغالب من محبي ضيفه أو متابعيه، ولذلك فلا تكون المداخلات سلبية إلا في حضور ضيف مثير للجدل، أو طرح موضوع جديد يشد انتباه الحاضرين، لكن الجميع لا يتكلمون إلا إذا وصل الدور إليهم، ويكونون قد أرسلوا أسئلتهم قبل ذلك مكتوبة إلى عريف المنتدى، ليقدمهم ويطلب منهم عرض السؤال أو المداخلة.
وفي بعض اللقاءات يختتم المجلس بتوزيع بعض كتب الضيف أو رواد المجلس، كهدية للحاضرين في ذلك المجلس، وقد توزع رقاع الدعوة إلى لقاء قادم أو لقاءات أخرى.

عريف المنتدى و إدارة الحوار

توكل إلى عريف المجلس في العادة مهمتان، الأولى هي المعتادة في جميع المجالس وهي إدارة الحوار، والثانية في بعض المجالس فقط وهي التنسيق مع الضيوف، لكنه في كلتا الحالتين يتميز بسعة اطلاعه ومعرفته بالضيف وإنتاجه، وحسن الحديث والبساطة والتلقائية في التعبير، ولذلك فإن غالبية عرفاء منتديات العاصمة هم من الأدباء أو الإعلاميين أو الأكاديميين، ولكل عريف منتدى طريقته، فبعضهم يطغى طابع الطرافة والبسمة على تقديمه، وآخرون يعتمدون على أدبهم فينتقون أطيب العبارات والأشعار لتكون الفواصل بين كل مداخلة وأخرى، ويترك بعضهم مكبر الصوت مفتوحا طوال تعليق المعلقين ليعبر بكلمات تشجيع أو تأييد، أو صوت اعتراض في مرات أخرى.
وغالبا ما ينال العريف استحسان الضيف والحضور أو غضبهم، اعتمادا على مدى نجاحه في إدارة الحوار، حيث يتسبب بعضهم – أحيانا - في خروج الضيف منزعجا من أسلوب العريف في التقديم، أو مقاطعته الحضور والمتداخلين ولذلك تحرص المنتديات على اختيار ذوي الخبرة في هذا الموقع الحساس في كل المنتديات، إذ إنه يتحدث بلسان راعي المنتدى في كثير من الأحيان.

وجاهة أم ثقافة!

يحضر المنتديات بحسب اتساعها ما بين الثلاثين في أصغرها إلى ما يزيد على المائتين إلى ثلاثمائة في المنتديات الكبيرة، وعادة ما يتحدد حجم الإقبال والحضور بحجم الضيف وأهميته، وبالطبع فإن حضورا كبيرا مثل هذا قد يكون فيه من الباحثين عن الوجاهة و"المتثاقفين" والطفيليين المعاصرين، خاصة في المنتديات الكبيرة، إذ إن الغالب في المنتديات الصغيرة أن صاحب الدار يتعرف على الحضور بشكل جيد، ومن ثم يتواصل معهم بخصوص الموضوعات والضيوف التي يمكن أن تطرح في كل موسم.
لكن المشكلة في استغلال البعض هذه المناسبات لمحاولة فرض توجه أو رأي محدد، وهو ما ترفضه المجالس بشكل عام، ويثير استياء المثقفين خصوصا.
ويثار سؤال بين المتابعين لهذه المنتديات: هل الغرض منها فعلا تنمية ثقافة الحوار في المجتمع، أم أنها نوع من الوجاهة والبحث عن الأضواء؟ والحقيقة أن الأمر يحتمل كلتا النظرتين، فعدد كبير من المنتديات يحرص على دعوة الإعلام في أي محفل بغض النظر عن أهمية الضيف أو الموضوع المطروح، لكن هناك آخرون لا يبحثون عن التغطية الإعلامية بأي شكل من الأشكال، بل أحيانا يرفضونها، أو يشترطون مرور ما ينشر عليهم قبل النشر، لكن المنتديات على أية حال تقدم صورة مميزة للحوار الثقافي في المجتمع.

علاقات المنتديات .. مودة وزيارة

في العام الماضي استضاف الدكتور عمر بامحسون صاحب الثلوثية أعضاء مجلس إدارة مركز الشيخ حمد الجاسر لزيارة حضرموت، وقدم لهم برنامجا ثقافيا عرض فيه جوانب من الثقافة اليمنية والحضرمية، وصرح بامحسون خلال لقاء سابق مع "الاقتصادية" أنه يسعى لتنسيق مزيد من الزيارات مع منتديات أخرى.
ومن صور العلاقات الإيجابية بين المنتديات اقتصار المؤرخ فائز الحربي على لقاء واحد شهريا بدلا من اللقاء الأسبوعي كل ثلاثاء لتعارضه مع ثلوثية صديقه الدكتور محمد المشوح.
كما يزور أصحاب المنتديات بعضهم بعضا في فترات متقطعة لتقوية العلاقات وللاستفادة من التجارب المختلفة في التعامل مع المنتدى وضيوفه.

السهرة .. وقت المنتديات المفضل

كل منتديات العاصمة تنعقد في المساء بعد صلاة العشاء بنصف ساعة أو نحو ذلك، عدا خميسية الجاسر التي تعقد عند العاشرة والنصف من صباح الخميس، ويعود ذلك إلى البعد بين أطراف العاصمة، وقد يستغرق المحاضرون وقتا طويلا حتى يصلون إلى المنتدى، فتكون لديه الفرصة للانتقال بعد إنهاء أعماله قبيل العشاء ليصل إلى الموعد بعد الصلاة مباشرة في ظل الزحام الكبير في شوارع العاصمة الرئيسة، أما الخميسية فموعدها في أول يومي عطلة نهاية الأسبوع وتكون الطرق إليها عادة سهلة والوصول في الموعد.
وبالطبع فقد يحصل بعض التعارض بين المنتديات، لكن العنوان الأبرز يفرض نفسه في كل ليلة، ليجد المثقف لقاء ثقافيا في كل أيام الأسبوع عدا الأربعاء يوم إجازة المنتديات.

التخصص

تؤثر اهتمامات راعي الأمسية أو المنسق في اختيار مواضيع اللقاءات عدا منتدى المحمدية الذي يجري استطلاعا في اللقاء الأول في كل موسم، ويجري اختيار المواضيع واللقاءات بالاقتراح والتصويت، وتطرح المنتديات مواضيع ثقافية واجتماعية عامة، غالبا ما يحددها الجو العام للإعلام في تلك الفترة، أو الشخصيات التي تظهر على الساحة الثقافية بين فينة وأخرى، أو الأحداث الثقافية والاقتصادية الكبرى، كما ظهر تأثير الأزمة المالية العالمية الأخيرة في الطرح في المنتديات بداية هذا الموسم.
وتركز بعض المنتديات على جانب مهم هو الجانب الأهم لطرحها خلال الموسم، مثل اهتمام ثلوثية بامحسون بالجانب الاقتصادي، واهتمام خميسية الجاسر بعلوم الآداب التي برع فيها الشيخ حمد - رحمه الله، وتركيز أحدية الرشيد على الضيوف المتخصصين في الدين والشريعة.

الدورة السنوية

تبدأ المنتديات عادة دورتها في بداية العام الدراسي وتتوقف خلال الإجازات، عدا منتدى الرفاعي الذي لا يتوقف إلا بغياب صاحبه الدكتور عبد الله الرفاعي في إجازاته.
وتتوقف عادة في الأسبوع الأخير قبل الاختبارات النهائية للمدارس في التعليم العام، وعادة لا يتكرر حضور ضيف واحد في السنة أكثر من مرتين، بحسب صلته بصاحب المنتدى.
وهناك منتديات تتواصل مع حضورها عبر قنوات التواصل المختلفة من رسائل قصيرة أو بريد إلكتروني، أو عن طريق الهاتف لإعلامهم بعنوان اللقاء وضيفه في الظروف الاستثنائية.

مواقف غريبة!

#3#

وبالطبع فتجمعات إنسانية مثل هذه لا تخلو من المواقف التي تبعث على العجب أحيانا، وتحث على الابتسام في أحيان أخرى، من ذلك أن أحد المتطفلين حضر مبكرا في أحد المنتديات وجلس في مكان بارز في صدر المجلس، وبدأ الناس بالسلام عليه والترحيب به وإكرامه، وصاحب البيت يظن أنه جاء مع ضيفه لأنه جاء في لباس فاخر وثياب مرتبة شأنه شأن كبار الضيوف، والضيف لما حضر ظن أن المتطفل رجل من أصحاب راعي الأمسية لما رآه جالسا إلى جوار مكان الضيف في صدر المجلس، فبادر إلى إكرامه والترحيب به، وضاعت قصة المتطفل الذي أخذ مكانا لا يليق به.
وبعد اللقاء قام الناس للسلام على الضيف ومن حوله، ليكتشف صاحب المنزل أن الرجل ما هو إلا متسول متطفل جاء ليطالب بحفنة من المال من صاحب المنزل متظاهرا بمظهر غني هجره العز إلى غيره، وبما أن صاحب البيت – كما بدا لمن تابع الموقف – تعود على مثل هذه المواقف، دعاه إلى العشاء ثم أوصى بمن يرافقه إلى الباب "مكرما".
ويحضر متطفلون آخرون همهم أن يصل شيء من حديثهم المغرض إلى أسماع الحاضرين، ويبدو أن أحدهم أعجب بأحد المنتديات الذي عرف بإعطائه الفرصة للضيوف ليعلقوا على المحاضرة، ولما انتهى المجلس طلب الحديث، وحين أعطي المكبر بدأ في حديث لا علاقة له بموضوع اللقاء، وألقى بكلام مغرض عن المملكة، ليعاجل راعي المنتدى ومديره بطرد الرجل من المجلس على ألا يعود مرة أخرى، لكن العجيب فعلا أنه تعرض للطرد بالشكل نفسه في الأسبوع الذي يليه، إذ لم يؤثر فيه الطرد من أول مرة، فجاء ليطرد قبل بداية اللقاء في هذه المرة.

وأخرى طريفة ومحرجة

ومن الطرائف أن المثقفين قد يتراسلون بالبريد، ويقرؤون لبعضهم بعضا من خلال صفحات الكتب أو الإعلام، لكنهم حينما يلتقون تكون بعض المواقف غير المتوقعة، كما حصل من أن أحد الأدباء أخذ يمدح عمل أحد المثقفين وكيف أن عمله كان مميزا، ليكتشف المجلس أن الممدوح يجلس قريبا من صاحبه في المجلس نفسه وهو لا يعلم، فكان أن التقيا بحرارة صفق لها الحضور.
ومن ذلك أن محاميا ممن يحضر المنتديات طلب المداخلة من صاحب المجلس، ولما كانت المداخلات كثيرة وطويلة اعتذر صاحب المجلس عن مداخلته، ثم اعتذر بعدها عن بقية المداخلات مبكرا، ليكتشف الحاضرون أن الرجل قام بالمطالبة – بوقاحة - آمرا صاحب المنزل أن يقدم له مكبر الصوت، وحين أحرج صاحب المنزل آثر أن يوقف المداخلات، قبل أن يتمادى في "مطالبته".
وحصل لهذا الرجل تفسه موقف آخر مع المداخلات حين سحب مكبر الصوت عنوة من شاب صغير، حتى يتكلم قبل أن تتاح له الفرصة للمداخلة، وبدأ في الحديث مباشرة ليضطر بعدها مدير الأمسية للتعريف به "مكرها".
ومن المواقف المحرجة أن راعي الأمسية قد يحرج مع ضيفه بسبب بعض طفيليي العصر الحاضر، الذين يسابقون الضيف إلى المائدة فيجلسون قبله، وقد لا يجد مكانا للجلوس، فيضطر أهل المنزل إلى إجراء تعديلات في ترتيب المائدة، أو أن يحضروا له عشاءه إلى مكان خاص.

طعم ثقافة الحوار

ولا يمكن أن ينسى أحد ما للحضور الثقافي في منتديات العاصمة بالتحديد من نكهة مميزة، إذ تتعانق الخبرة الأكاديمية فيه مع الإبداع الأدبي، والأفكار الجديدة مع القديمة في خليط ثقافي فريد، لا تجد فيه ثقافة الإقصاء والتحيز مكانا، ولذلك فإن الإقبال عليها يزيد في كل مرة، ليتعرف مجتمعنا بمختلف شرائحه على الحوار بشكله الحقيقي شيئا فشيئا، وليتذوق رواد المنتديات الثقافة في أبسط صورها، فكرة وردة فعلها، فقط دون تعقيد.

الأكثر قراءة