ثقافة الحوار .. وخلل في التطبيق
كثر الكلام في الآونة الأخيرة عن الحوار وأهميته, ولعل التغيرات المجتمعية كانت سببا في ذلك, ومع هذا فالاهتمام بالحوار يبدأ من تنشئة الطفل في أسرته بتوفير جو من الأمن الفكري يسمح له بطرح التساؤلات والمناقشة والاعتراض والاختيار.
إن توافر مثل هذا الجو في المحاضن التربوية من بيوت ومدارس كفيل بإخراج جيل واع يعبر عن آرائه ويتعايش مع مخالفيه.
وفي هذا طلب لمن وجدوا آباءهم على أمة من الأخطاء من آباء وأمهات ومعلمين بأن يعيدوا النظر في طريقة تعاملهم مع الجيل الناشئ بالحوار معهم وتعليمهم طرق الحوار وآدابه والخلاف والتعامل مع المخالف, وهذا لا يتم بطبيعة الحال إلا بعد تصحيح المربي أخطاءه الذاتية في الحوار.
إن مشكلتنا الرئيسة ليست في انعدام الحوار فإننا نجد تلك الحوارات في كل مكان بين المتوافقين، والمتخالفين لكن المشكلة الحقيقية في كثير من الأخطاء التي نشاهدها في الحوارات مما يضيع فائدتها ويقلل من نتائجها, وسأتطرق هنا إلى ثلاثة أرى أنها الأهم:
أولها: عدم التحديد الدقيق لقضية الحوار, أو ما يطلق عليه الفقهاء "تحرير محل النزاع". فلو صُرِفَ أول وقت الحوار للاتفاق على قضية النقاش وتحديدها بدقة والتأكد أن الفهم مشترك لدى المتحاورين لاختصرنا بذلك كثيراً من الجهد والوقت.
إن الدخول في حوار لم تكن له تساؤلات واضحة ومحددة ستكون محصلته مجموعة من الأفكار دون رباط ولا تأثير, وهذا في الأسف حال كثير من اجتماعاتنا وحواراتنا التي لربما تنبهنا لقلة فاعليتها.
أما ثانيها: فمناقشة الفروع دون الرجوع للأصول فإن الاتفاق على الأصول من شأنه حسم الفروع غالبا, أما إن لم يكن هناك اتفاق في الأصول فهي الأولى بالنقاش من الفروع, ولنأخذ على ذلك مثالا فقد يناقش بعضهم مسألة أتى فيها نص صريح بحكمها فهو أمام أمرين: إما أنه يقر بمرجعية مصادر التشريع وصلاحيتها لكل زمان ومكان، فيلزمه من ذلك الإقرار بما جاء فيها, وإما أن لديه اعتراضا على هذا الأصل أو صلاحيته فيكون حينها من الأولى مناقشة هذا الأصل وتبيين حال المتحاورين منه، لأن الأصل الذي يرجع إليه كل واحد منهم يغني عن الحوار في فروع هي انعكاسات للأصول.
أما ثالثها: فدخول المتحاورين في حوار تغلب فيه الآراء على الحقائق، وهذا راجع لعدم تخصص المتحاورين في القضية، محل الحوار، أو عدم بذل الجهد في بحث هذه القضية. وعلى سبيل المثال قد تجد مجموعة تناقش قضية اجتماعية مهمة كالطلاق أو العنوسة، ولا توجد بين أيديهم إحصاءات ولا دراسات، بل هي مجرد آراء تكونت من الخبرة الحياتية المحدودة لكل فرد من المجتمعين, والمشكلة فعلا إذا انبثقت من تلك النقاشات أحيانا قرارات مصدرها الآراء والظنون.
هذه الأخطاء ومثيلاتها تشير إلى أن اهتمامنا لا بد أن ينصب على الكلام حول آداب الحوار وأساليبه وتطبيقاته أكثر من الكلام حول أهمية الحوار وفائدته.
*المدير التنفيذي لمؤسسة المربي