صيرفة جحا وخرط الصكوك وخريطها
يروى أن جحا احتال على أناس ليصرفهم عنه بإخبارهم بوجود مال أو ذهب في مكان بعيد عنه ثم عاد وصدق حيلته فلحق بهم لعله يفوز ببعض الغُنم. ويظهر أن جحا ليس فريد عصره فبعض أهل صيرفة التيوس المحللة قد صدقوا بالفعل ما يحتالون به على أنفسهم وعلى الناس.
كتب الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار ـ رحمه الله ـ نصيحة في التحذير من العينة فقال "فمن أنواعه (أي الربا) التي يتعاطاها من قل نصيبه من مخافة الله البيع بـ "العينة" وهي أن يبيع شيئاً بثمن مؤجل ثم يشتريه البائع أو شريكه أو وكيله من المشتري بأقل مما باعه به ، وهذا لا يجوز" انتهى.
وأقول إن تشخيص مفتي الديار ـ رحمه الله ـ لا يتجاوز معظم ما تفعله البنوك التي تزعم بأنها بنوك إسلامية فهي تبيع المتمول (المقترض) شيئاً مما يباع ويشترى في البورصات أو عند التجار بثمن مؤجل ثم يشتريه شريك البنك أو وكيله من المتمول بأقل مما باعه به ويحصل المتمول بذلك على المبلغ الذي يحتاج إليه. فسبحان الله ما كان رباً في الأمس القريب أصبح الآن دينا يُحمل الناس عليه حملا ويدفعون مقابله تكلفة أعلى ويُدعى منظروه بالمشايخ وأهل الاختصاص بينما يُقذف المخالف بالربا والفسوق.
وكذلك أتى في نصيحة الشيخ محمد بن إبراهيم السابقة التحذير من الحيلة، حيث كتب ـ رحمه الله ـ في قلب الدين على المعسر"ولكن من الناس من لا يُصرح بقلب الدين مخافة الإنكار عليه ، فيتوصل إلى غرضه الفاسد بالحيلة المحرمة بإظهار عقد سلم، فيدفع إلى الفلاح دراهم هي رأس المال السلم في الظاهر، وبعد ما يقبضها الفلاح يردها إلى التاجر عما في ذمته من الدراهم، ويسمون هذا "تصحيحاً" وهو باطل غير صحيح، إذ العبرة في الأشياء بحقائقها". انتهى
وصدق ـ رحمه الله ـ فإن العبرة في الأشياء بحقائقها، ووقفتنا هذا الأسبوع مع ما تُدلس به صيرفة جحا على المسلمين بما أسموه بالصكوك استخفافا بعقولهم وعقول المسلمين زاعمين أن هناك فروقا ثلاثة أساسية بين الصكوك والسندات. أولاها أن الصك له ملكية مشاعة في ممتلكات من أصدره بينما السند ليس له هذه الملكية. وثانيها أن الصك ليس له نسبة فوائد محددة بينما السند له نسبة محددة. وآخر هذه الفروق التي زعموها هو أن صاحب الصك له حق الخيار باسترجاع قيمة الصك أو عدمه بينما صاحب السند لا يملك هذا الحق وجعلوا من الأخير الفرق الفاصل بين الصكوك الإسلامية الحقيقية وبين الأخرى الصورية في جدل طويل ثار منذ فترة غير بعيدة. ولا أعلم هل هم يفهمون ما يتجادلون حوله أم هو صرف لعقول الناس عن فساد الصكوك جملة وتفصيلا!
في الواقع أن هناك فرقا جوهريا بين السند والصك لا تذكره صيرفة الحيل لأنه فرق حقيقي وليس اسمياً فقط، وهو أن الصك حيلة للتهرب من الزكاة إذا اعتبرنا التكييف الفقهي الذي كُيف به. فالسند تجب زكاته لأنه في الحقيقة عرض من عروض التجارة أما الصك فلا تجب الزكاة في أصله بل في فوائده وما عدا ذلك فالصك كالسند ليس هناك أدنى فرق إلا في المسميات فقط.
ولنقف وقفة تأمل وتمحيص مع الفروق المزعومة. فأول الفروق التي زعموا أن الصكوك تخالف السندات هو أن الصك له ملكية مشاعة متقدمة على الملكية الأصلية وما ذلك في الواقع إلا من أجل أن يوافق السند بكونه يملك أحقية أولوية عند التصفية وما عدا ذلك لا يحق له أي شيء من مستلزمات الملكية المشاعة كلزوم أن قيمة الصك الذي بيع بـ 10.000 ريال سيصبح 100.000 ريال إذا تضاعفت أصول الشركة المصدرة التي تجري فيها الملكية المشاعة المزعومة، وكذلك يلزم منه ارتفاع العائد الذي يأخذه حامل الصك والذي أسموه تدليسا إجارة وما هو إلا سعر الفائدة، وكلا الأمرين من مستلزمات الملكية المشاعة وجوهرها ولا وجود لها في الصكوك مطلقا مثلها مثل السندات فلن تزداد قيمة الصكوك ولا عوائدها إذا ازدادت قيمة الأصول التي زعموا ملكية مشاعة فيها. فحامل الصك ليس له إلا رأسماله الذي دفعه عند الاكتتاب لا غير، وليس له إلا سعر الفائدة العام المتغير (كالسيبر أوالليبر) مع إضافة 2 في المائة كما في "سابك" أو غير ذلك وتختلف النسب باختلاف الصكوك.
وثاني الفروق التي زعموا أن الصكوك تخالف السندات هي أن السند له عوائد تسمى بالفوائد والصك عوائده تسمى إجارة وهي مقدار الفوائد (كالسيبر أوالليبر) مضاف إليها نسبة محددة. والعجيب أنهم دلسوا على الناس فقالوا إن العوائد غير ثابتة بخلاف السند وهذا غير صحيح فهو ثابت من جهة و مربوط بسعر الفائدة (كالسيبر أوالليبر) من جهة أخرى. فقد ترتفع الإيجارات و ترتفع أصول الممتلكات التي يزعمون أن للصك حقا مشاعا فيها بينما تنخفض العوائد على الصكوك إذا انخفض سعر الفائدة (كالسيبر أوالليبر). ولو أنها متغيرة بالمعنى الذي قصدوه لارتفعت العوائد وانخفضت مع ارتفاع وانخفاض قيمة الممتلكات لا مع الفائدة المتفق عليها (كالسيبر أوالليبر).
وثالث الفروق وأكثرها سخافة وتدليسا التي زعموا أن الصكوك تخالف السندات هو أن السند تعاد لمالكه القيمة التي مول بها الشركة وكذلك الصك تعاد لمالكه القيمة التي اكتتب فيها على الخيار فإن أبى فله الفلس .
وهذا الفرق الثالث يحتاج إلى تفصيل فمنهم من جعل منه فاصلا بين الصك الإسلامي الجيد والصك الإسلامي المتهاون فزعموا أن مُصدر الصك ليس عليه إعادة المال الذي اقترضه أو تموله من صاحب الصك جبرا بل خيارا إذا أراد أن يكون الصك بذلك صكا حقيقيا لا صوريا! وهذا ما أسال لعاب الغرب وفتح شهيتهم على أموال المسلمين. فقل لي بربك هل يوجد أسخف من هذا الشرط أو أن هناك من سيفعله إلا سفيه يلزم عليه الحجر. والصحيح أن الابتعاد عن الكتاب والسنة وفهم السلف والتمسك بفتوى سابقة قد فقدت معطياتها التي استندت عليها في أصل التحريم وقياس الأوراق على الذهب هو السبب في خلق هذه المضحكات المبكيات.
وخلاصة القول هو أن السند كالصك، ما هو إلا تمويل لأجل بسعر فائدة سنوي حتى إذا أتى وقت السداد يأخذ صاحب السند ماله الذي أعطاه وأما صاحب الصك فله الخيار في ذلك إما أن يأخذ ماله الذي دفعه وإما أن يتركه للشركة المتمولة فلا يأخذه ويضيع عليه فداء لصيارفة جحا!
وآخر ما يدلس به أهل الصكوك على بسطاء المسلمين هو أن أكثر المتعاملين بها من غير المسلمين ويفتخرون بذلك. هم يعلمون ولكنهم لا يخبرون بأن غير المسلمين إذا أخذوا أموال المسلمين أخذوها بثمن بخس وإذا أعطوهم أموالهم أعطوها للمسلمين بثمن غال وهذا سر تهافتهم على الصكوك. وهاهي فرنسا الآن بعد الأزمة المالية وشح التمويل عندها تريد نصيبا من هذه الأموال الرخيصة التي يوفرها لهم بسطاء المسلمين بمباركة ممن زعموا أنهم شيوخ الاقتصاد.
ألا من مصلح يصلح ما أفسد هؤلاء! ألا من يحمل هم المسلمين بعد أن تخلى عنهم من كان يتباكى على هموم المسلمين سابقا من الذين زجوا بأبناء المسلمين في أتون مطاحن حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل ثم عادوا الآن يباركون أهل صيرفة جحا، صيرفة الحيل والتيوس المحللة في نهب أموال المسلمين. ألا يارب متى يتوقف هؤلاء عن التلاعب بعواطف المسلمين فيتوقفون عن التضييق عليهم في اقتصادياتهم من غير سند شرعي وعن نهب أموالهم ذبحا على الطريقة الإسلامية!
رُب وامعتصماه انطلقت ملء أفواهِ الصبايا اليتمِ .. لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم.