من برتن وود إلى الأزمة المالية ولتحيا مصداقية الإمبراطورية الأمريكية

عملت سياسات الولايات المتحدة الاستراتيجية منذ ظهورها كقوة عالمية على الاستغلال الكامل للفرصة أينما وحينما تلوح بشائرها. هذه الفرص لم تكن لتتوافر لو أن أمريكا لم تستثمر وتبذل جهدا في خلق هده الفرص على حساب أموال أبنائها ودمائهم.
ففي حروبها من أجل تحقيق إمبراطوريتها قدمت أمريكا دماء ما يقارب نصف مليون أمريكي في الحرب العالمية الثانية وما يقارب من 100 ألف من أبنائها في الحرب الكورية والفتنامية وما مجموعه يقارب خمسة آلاف في حروبها مع بلاد المسلمين في أفغانستان وتحرير الكويت ولبنان والصومال وكوسوفو وأخيرا احتلال العراق.
وقدمت أمريكا للعالم ثلاثة أرباع احتياطياتها من الذهب من أجل معاهدة برتن وود، وفتحت جامعاتها ومختبراتها لعباقرة الإنسانية، وصدرت مصانعها وخبراتها التي لا تقدر بثمن إلى الصين والهند ودول العالم الثالث، وقدمت المليارات من المعونات الاقتصادية على اختلاف أشكالها وأنواعها لجميع دول العالم الصديقة لها والدائرة في فلكها.
فمن قصر النظر وبساطة التفكير أن يعتقد معتقد بأن سفح دماء الأبناء ليس له ثمن غال عند الأمريكان وأن أمريكا لن تعمل على استرجاع استثماراتها المالية والعلمية والاقتصادية أضعافا مضاعفة. إن هناك من ينظر إلى مثل هذه الأمور من منظار  نظرية المؤامرة، فإما ألا يؤمن بها فلا يحتسب لها وإما أن يرتكن إليها فيستسلم لها وكلا الأمرين مجانب للصواب.
اعتمدت أمريكا على ثلاثة مرتكزات أساسية يحتويها قالب واحد قاد استراتيجياتها  للنجاح. هذه المرتكزات تنحصر في القوة العسكرية والاقتصادية والإعلامية، التي تقدم جميعها في قالب الثقة الموشح بوشاح المصداقية المطلقة.
الثقة والمصداقية منتج عالي التكلفة في المديين الزمنيين القصير والمتوسط لكنه ذو عائد إيجابي غير محدود للأهداف الاستراتيجية الطويلة الأجل. أمريكا قد استثمرت كثيرا في هذا المنتج الذي فتح عليها أبوابا من شتى أنواع الخيرات، فالتضحية إذن بهذا المنتج لا بد أن يكون مدروسا ومخططا له من حكماء القوم بحيث يكون ثمينا ووقتيا سريع النسيان.
 
الحرب العالمية مهدت لمعاهدة برتن وود، التي نقضتها أمريكا ممهدة لسيطرة الدولار المطلقة. لم تكن أمريكا لتفعل ذلك بوجه بارد وتراهن على مصداقيتها لولا أن مفكريها وحكماءها علموا أن النتيجة هي انتقال مناجم ذهب العالم إلى نيويورك، وأن غسل عار الغدر بالمعاهدة واسترجاع الثقة والمصداقية أمر هين طالما أن أمريكا تدفع تكاليف الحرب الباردة بدماء 100 ألف أمريكي سفحت في ساحات الحرب الكورية والفيتنامية. ولا يفهم أحد أن أمريكا اختلقت الحرب وقتلت أبناءها من أجل نقض معاهدة برتن وود فلو كانوا كذلك لما سادوا وباد غيرهم. إن الحصيف من يميز السبب من المسبب فمن ينظر بمنظار الحكيم المخلص لوطنه وإخوته من أبناء شعبه فسيدرك أن المصلحة الأمريكية هي المقدمة على المصالح كلها، فالحرب الباردة والحرب الكورية والفيتنامية هي في الأصل دفاع عن أمريكا وعن مصالح أمريكا والفرصة قد حانت فلتغتنم ولتدفع أوربا قيمة هذه الحروب وليتبوأ الدولار عرش الذهب، وهكذا تغتنم الفرص.
ورأت أمريكا أن  أفغانستان هي المسمار الأخير في نعش الاشتراكية فأعلنت الجهاد ونصرة جند الله، فما إن سقط الدب الروسي حتى أغوت الأحمق الجبار بغزو الكويت فحصلت على حق امتياز حماية منابع النفط، شريان الحضارة والذهب الذي أعطى الدولار الهيبة والهيمنة. ونعمت أمريكا أخيرا بعصر ذهبي تهالك العالم أجمعه اقتصاديا من حولها وهي تتقلب في نعم لم تعهدها قط في تاريخها. وأتى أمريكا ما لم تحسب له موعدا وهوجمت  في عقر دارها، فلم تكن لتكتفي بالثأر ويرضى كبرياؤها بتأديب أفغانستان. قُدمت الفرصة على صحن من ذهب، فطمحت خيالات قادتهم لتبديل حق امتياز حماية منابع النفط إلى حق امتياز امتلاك منابع النفط. كل ذلك تزامن مع انطلاقة لنمو عالمي غير مسبوق ولا معهود، ترى أمريكا نفسها صاحبة الفضل فيه فما كانت لتتخلف عن الركب وتنطوي على نفسها في ركود اقتصادي محلي والعالم ينعم في نمو غير مسبوق. وكما استخدمت أمريكا مصداقيتها لغزو العراق فقد استخدمت مصداقيتها في بيع ديونها وديون شعبها على العالم. ولم تكتف بذلك، فهندست تخفيض سعر الدولار فسحقت اقتصاديات بلاد اليورو واستطاعت بيع معظم شركاتها المتعثرة على مستثمري العالم مستغلة ثقة القوم. وهكذا فإن كان لا بد من الدخول في مرحلة انكماش ولا محالة فليكن بعد استنزاف ثروات الشعوب وتوريطهم في مستنقع الركود على حال أسوأ من حال الاقتصاد الأمريكي.
في أمريكا الشعب لا ينتخب الرئيس حقيقة، إنما النخبة من أهل الحل والعقد هي التي ترشح من يصلح للرئاسة ومن بعد ذلك يوجه الإعلام لتوجيه الشعب لانتخاب من يحقق انتخابه أهداف أمريكا الاستراتيجية العظمى. ولذلك رُشح جون كيري كمنافس ليعاد انتخاب بوش وديك تشيني لإتمام المهمة التي بدأوها.
في عهد بوش وديك تشيني نجحت أمريكا في الاستيلاء على بعض منابع النفط فتحقق بذلك أدنى أهدافهم في احتلال العراق، ونجحت في تصريف شركاتها الخاسرة والمتعثرة على المستثمرين الأجانب، ونجحت في خنق اليورو، ونجحت في تأخير الركود الطبيعي لعقد من الزمن، ونجحت في سرقة عشرات التريليونات من أنحاء العالم أجمع مباشرة أو عن طريق هندسة تخفيض سعر الدولار. ولكنهم خسروا مقابل ذلك مصداقيتهم السياسية والمالية، فهل غفل حكماء أمريكا عن ذلك حقا؟
أمريكا لا تخلق الأحداث فالخالق هو الله، أمريكا تحسن استغلال الفرص واستخدام الأحداث.
لقد كان في ظهور الخطيب المفوه القانوني خريج هارفرد الرجل الأسود ذي الخلفية والمسمى الإسلامي على الساحة السياسية فرصة ذهبية لحكماء أمريكا استغلوها بقوة  عاطفيا وإعلاميا وسياسيا من أجل استرجاع الثقة والمصداقية الأمريكية التي اهتزت أثناء تحقيق الأهداف العظمى الاستراتيجية التي تحققت للأمريكان في العقد الماضي.    
فأصبح أسطورة علم الاقتصاد اليهودي المجري الأصل قرين سبان صبي بريء قد استغلت براءته وحسن نيته  كما ادعى هو في شهادته أمام الكونجرس؟ وأرسل المحاربان القداميان بوش وتشيني إلى تكساس بعد أن تحملا أوزار أمريكا أوتي بالأسود المسلم كدليل على ندم أمريكا وتوبتها وعودة مصداقيتها و"تصفر أمريكا العدادات" وتعود الكرة من جديد كما بدأت في السبعينيات وعفا الله عما سلف.
إن كان ما سبق له حظ من الصواب فالدولار لا بد له أن يستعيد عافيته وترتفع قيمته أمام العملات الأخرى من أجل عودة المصداقية الأمريكية واستمرار هيمنة الدولار، ولكن آنى يمكنه ذلك والرئيس الأسود يعد بمزيد من العجز في الإنفاق الحكومي وبرن برانكلي يعد بمزيد من خفض الفائدة وتقديم مزيد من الدولارات للبنوك؟
في رأيي أن أمريكا لن تقدر على رفع قيمة الدولار ولكن بشائر الأزمة الائتمانية الحالية وضخ البنوك المركزية كما هائلا من الأوراق النقدية عن طريق مباشر أو عن طريق تخفيض سعر الفائدة قد يحكيان السيناريو المقبل. الدولار لن يرتفع ولكن بالمقابل العملات الأخرى هي التي ستنخفض فيلتبس على الناس السبب من المسبب، ولكن سيكون ذلك على حساب تضخم عالمي قد يمكن التحكم به نوعا ما بتخفيض سعر النفط، والحديث يطول هنا.
إن سر نجاح وتفوق أمريكا هو قدرتهم على الابتكار والإتيان بالجديد فهم من خرج من مأزق برتن وود بحيلة لم يستوعبها كثير من العالم حتى الآن بقلبهم ديونهم إلى مناجم للذهب، وهم من سخر العالم لينفق التريليونات على الشعب الأمريكي بابتكارهم المشتقات، وهم من أتى بالمسلم الأسود ليغسل خيانات أمريكا ويعيد المصداقية، وهم وهم .. فليس لنا إلا أن ننتظر ونرقب هذا المشهد القادم في مسرحية الإمبراطورية الأمريكية.  

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي