قولبة حقوق الإنسان

أصبح مصطلح حقوق الإنسان من أكثر المصطلحات تداولا ضمن البنية الثقافية للمجتمع، وبات الحديث عن الإنسان وحقوقه طفرة جينية ثقافيةً لشرائح مختلفة من المجتمع, وبطبيعة الحال وفق رؤى وتصورات متعددة وربما متباينة, لم يسلم من هذا الاختلاف والتباين حتى المؤسستان المعنيتان بحقوق الإنسان, هيئة حقوق الإنسان والجمعية الوطنية لحقوق الإنسان, وذلك على مستوى العاملين في هاتين المؤسستين, ونحن إذ نقدر جهود الهيئة والجمعية ونجاحهما نرجو ألا يتسرب تباين الرؤى إلى أروقتهما أو رؤيتيهما.
وابتداء, يقترن بحقوق الإنسان كمصطلح بهذه الإضافة أمران الأول النشأة الغربية, والأمر الآخر حداثة هذا المصطلح, الأمر الذي يتطلب قراءة هادئة ومتأنية في حقوق الإنسان في صيغتها الغربية, ولا سيما أصولها الفكرية والفلسفية التي تفسر لنا معالم تطبيقاتها الواقعية, ثم هل تحمل هذه الصيغة مؤهلات العالمية أو الكونية, وتهمش الخصوصية الدينية والثقافية للأمم الأخرى في سبيل العالمية كما يلمح البعض ويصرح البعض الآخر؟!
ولعل الحديث عن الأسس الفلسفية يحتم علينا أن نبين أن الغرب المتمثل في أوروبا وأمريكا مر بثلاث حلقات متعاقبة زمانيا, الحلقة الأولى هي سيادة النص الشرعي - الوحي - وهذا هو الأصل وفيها جاءت النصرانية كديانة مؤقتة ليست خالدة, ولأن الله ـ عز وجل ـ لم يقدر لها الخلود لم يقدر لها الحفظ, وكل الرسالات قبل الإسلام كانت محددة زماناً وأحياناً زماناً ومكاناً, ولكن النصارى أرادوا لها الخلود وأن تحكم النصرانية الحياة في الوقت الذي لم تكن مؤهلة لذلك ولم يكن السقف المعرفي لرجالات الدين النصراني سوى اجتهادات بشرية صرفة صادمت بها العلماء واختلفت مع المفكرين, ولا سيما علماء الطبيعة, ذلك أن الديانة المسيحية بعد انتقالها إلى الغرب غدت ديانة الإمبراطورية الرومانية، ولكنها تحولت عن جوهرها الحقيقي، لتسوق وتسوغ الإرث الحضاري اليوناني والروماني، ولقد نبه إلى ذلك القاضي عبد الجبار بن أحمد (415هـ/ 124) عندما سبر غور هذه الحقيقة فعبر عنها بعبارته الجامعة التي يقول: "إن النصرانية عندما دخلت روما لم تتنصر روما, ولكن المسيحية هي التي ترومت" , لقد أسهم الشعور بالقلق الوجودي التي كانت تعيشه الحضارة الرومانية في انتشار المسيحية, كما أضفت القوانين الرومانية القوة على الديانة المسيحية, ما زاد جغرافية معتنقيها. ثم ظهرت الثورة الفرنسية وأعقبها التقدم الملحوظ في جوانب العلوم الطبيعية, ما أدى إلى دخول أوروبا باستثناء المجمعات الكنسية إلى دخول في حلقة ضياع النص, حيث فرخت وعششت العلمانية اللادينية كردة فعل لهيمنة الكنيسة وانزلقت المجتمعات الغربية في مستنقع الرذيلة والانحلال في الجانب الأخلاقي. أما الجانب القيمي العقدي فقد سرت فيه موجة الإلحاد, يقول الفيلسوف الألماني نتشه: "لقد آن للإنسان أن يفعل كل شيء, لقد مات الإله ووجد السوبرمان".
بعد هذا الفراغ العقدي في حلقة ضياع النص، دخلت أوروبا والغرب بشكل عام في حلقة تلمس البدائل في نسقٍ علماني, وازدهرت الفلسفات الوضعية التي تحاول الإجابة عن الأسئلة والقضايا الكبرى في ظل تغييب وإقصاء الدين عن المساهمة في صياغة فلسفة الوجود, جاءت هذه الفلسفات بتعاقب زمني, كل فلسفة ردة فعل لما سبقها, ولقد جاءت حقوق الإنسان هي الأخرى نتيجة عقود من الصراع الأوروبي ـ الأوروبي, والبروتستناتي ـ الكاثوليكي, والإقطاعي ـ البرجوازي, وجاءت حقوق الإنسان وأوروبا تعاني فراغاً تشريعيا, وكانت ردة الفعل في المناداة بها واضحة ولم تكن تشريعاً متأنيا, إذ جاءت بعد الثورة الفرنسية, وحتى الماجناكارتا هي الأخرى ردة فعل لنبلاء إنجلترا ضد الملك وانتهى الأمر بالحقوق في الغرب إلى التعاقدية البرجماتية مغيبةً بذلك الدين ومحاربةً له, مقصيةً التراحمية أمام التعاقدية, وانتهى الأمر بالغرب على المستوى الفكري إلى الحداثة ومركزية الإنسان بل تأليهه ثم مرحلة ما بعد الحداثة حيث العبثية وتآكل القيم والأسرة وكل الثوابت, وهكذا تحولت الفلسفة الإنسانية الهيومانية تدريجيا إلى فلسفة إمبريالية غربية متكبرة متعجرفة, تحلم بالتحكم الكامل في الكون, ثم بحوسلة بقية البشر, باسم الحقوق المطلقة للإنسان الغربي وتفوقه الحضاري وصنع الفكر الغربي – كما يذكر المسيري - نموذجان للإنسان السوبرمان الإمبريالي والإنسان السبمان أو الإنسان المدجن سريع التكيف متجدد الرغبات الباحث عن اللذة والاستهلاك اللامنتهي - هو النمط السائد - يعمل على قولبته وتنميطه بهذا الشكل الرأسمالية وخطوط الإنتاج في المصانع لضمان استمرارها كما يكرس الإعلام صناعة اللذة والإشباع الغريزي, رسولهم في هذا داروين وإنجيلهم المقدس كتابه (أصل الأنواع) ونظرية الصراع والبقاء للأقوى يظهر هذا في نسق حياة الغرب, ولا سيما أمريكا في حبهم للصراع على المستوى السياسي وصنع بؤر صراع متجددة في العالم الثالث, كما يتضح هذا في ثقافتهم يجسده بشكل واضح صناعة الأفلام في هوليوود, بل حتى أفلام الكرتون هي الأخرى توضح عقلية الصراع التي يعيشها الغربي وما (توم وجيري) وصراعهما إلا نموذج يكرس البرجماتية ونسبية القيم.
ولقد هام في الأنسنة والإنسانية بعض المفكرين العرب أبرزهم الفرنكفوني محمد أركون, ويَقْصِد أركون بالأَنْسَنَة ذلك الموقف الذي يقدِّس الإنسانَ لذاته، ويعده مركزَ الكون، ومحورَ القيم, وفي حقيقة الأمر لم يكن أركون بدعا في هذا فله سلف في التاريخ الصوفي هو ابن عربي (النكرة) إذ يقول:
لقد صار قلبي قابلا كل صورة فمرعى لغزلان، ودير لرهبان
وبيت لأوثان، وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه، فالحب ديني وإيماني
ولا شك أن دعوى القول بالأخوة الإنسانية لوقف انتهاكات حقوق الإنسان هي في حقيقتها دعوى لتقديم الإنسانية كدين يردع الناس وهي رؤية يوتوبياية حالمة, إذ لا توجد على وجه البسيطة دولة من الدول اليوم شرقيها وغربيها تعمل للإنسان المطلق.
إن الرفاهية التي تعيشها المجتمعات الغربية وارتفاع معدلات دخل الفرد تضفي على التعاقدية والبحث عن اللذة, وما يرتبط بهذا من منظومة حقوق الإنسان تضفي على هذا شيئا من البريق, وفي تقديري أن نتائج الأزمة المالية التي ضربت بأطنابها المجتمعات الغربية ستفضح هذ الحضارة في مجال حقوق الإنسان في المجتمعات الغربية نفسها وربما يكون ذلك على المدى المتوسط أو البعيد وذلك متى ما شحت الموارد وتدنى مستوى دخل الفرد, إن الأزمة المالية ستظهر للعالم مدى الأزمة الحضارية التي يعيشها الغرب رغم مظاهر القوة التي نراها, والتي بدت تتهاوى كقطع الدومينو.
إن قضية حقوق الإنسان من وجهة النظر الغربية مرتبطة ارتباطا وثيقاً بالنظرية الرأسمالية الغربية وبالإرث الكنسي المحرف متدثرة بعباءة البراجماتية الذرائعية، وبالتالي خطورة تعميمها أو الانخداع بها في ظل ضغط الواقع المعاش في بعض الأقطار الإسلامية، الأمر الذي ينتج نوعا من الصراع الثقافي وغياب الهوية الإسلامية وازدواج المعايير, ما يولد أجيالا شوهاء بعيدة عن مصدر عزتها مغيبة عن هويتها الإسلامية.

خاطرة:
وَما تَـزَالُ بِحَلْقِـي أَلْــفُ مُبْكِـيَـةٍ
مِنْ رُهْبـَةِ البَوْحِ تَسْتَحْيِـي وَتَضْطَـرِبُ
يَكْفِيـكَ أَنَّ عِدَانَـا أَهْـدَرُوا دَمَـنَـا
وَنَحْـنُ مِـنْ دَمِنَـا نَحْسُـو وَنَحْتَلِـبُ
يَدْمَـى السُّـؤَالُ حَيَـاءً حِيـنَ نَسْأَلُـُه
كَيْفَ احْتَفَتْ بِالعِدَى «حَيْفَا» أَوِ «النَّقَـبُ» (البردوني)

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي