إشكالية التحليل في السياسة الدولية (3)
لم يقتصر تحليل السياسة الدولية في أوروبا على مدرسة الأحداث الجارية، بل لقد تزامن معها مدرسة أخرى عرفت بمدرسة "القانون الدولي والمنظمات الدولية". حيث أسهم إنشاء عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى وزيادة الاهتمام بالقانون الدولي في توسيع شعبية الاهتمام بهذا التوجه. بذلك برز ما عرف بالتيار المثالي الذي يحث على ضرورة تطبيق أحكام القانون الدولي، وعلى مثالية الأخلاق في فهم وتفهم تطورات السياسة الدولية، وقد كان التركيز بذلك منصبا على "ما يجب أن يكون علية الحال".
ومع نهاية الحرب العالمية الثانية تجاوزت أوروبا "إشكاليات التحليل في السياسة الدولية" بالدخول في مراحل أكثر عمقاً وتعمقاً من سابقاتها. فلقد أسهم بروز "مدرسة الواقعية السياسية" في إثراء وتعميق مناهج التحليل في هذا الصدد. فلم يعد الاهتمام منصباً على "ما يجب أن يكون علية العالم"، بل تجاوزه إلى دراسة وفهم "ما هو قائم فعلاً". وبهذا أصبح هناك اهتمام بدراسة أهداف ومصالح وتوجهات الدول.
ولعل الوقوف على أهم مسلمات وافتراضات المدرسة الواقعية يجعلنا ندرك أهمية الحاجة إلى التعمق في تحليل السياسة الدولية على أسس علمية رصينة، والتي يمكننا تلخيصها على النحو التالي:
1- تعد الدول أهم العوامل في السياسة الدولية، وبذلك فإن التركيز على الدول (وليس على المنظمات الدولية، أو الشركات متعددة الجنسية) كالوحدات الأساسية لتحليل يساعد على فهم طبيعة التفاعلات في المجتمع الدولي.
2- يتم تحليل السياسة الدولية على أساس أن الدول تتصرف من منطلق عقلاني في تعاملها مع بعضها بعضا. وبذلك فإنه من المفترض أن الدول ستقوم بدراسة البدائل المتاحة لها بشكل عقلاني وبرجمائي pragmatic وستتخذ القرارات التي تخدم مصالحها العليا والتي تكون في العادة موجهة نحو زيادة قدرة الدولة وقوتها. وقد تقوم بعض الدول بذلك على الرغم من عدم حوزتها معلومات كاملة وواضحة كل الوضوح حول كل الخيارات البديلة، وبذلك قد تخطى في هذه الحالة عن اتخاذ القرارات الصائبة.
3- النظر لدولة كوحدة واحدة. على الرغم من أن متخذي القرارات في السياسة الخارجية لدولة ما؛ هم في الواقع أشخاص متعددون (رئيس الدولة، أو وزير الخارجية... إلخ ) إلا أن الدولة تتعامل مع العالم الخارجي بصفتها كيانا واحدا متماسكا. بناء على هذا الافتراض فإن المدرسة الواقعية تعد أن انعكاسات السياسات الداخلية لدولة ما لا تكون حاسمة في مواقف تلك الدولة خارجياً.
4- اعتبار النظام الدولي بمثابة غابة نتيجة غياب سلطة مركزية تحتكر القوة وتفرض إرادتها على الكل كما هي الحال في داخل الدولة.
5- اعتبار العامل الأمني العامل الأهم في سياسة الدول الخارجية. فالدول ستبذل قصارى جهدها لكي تحافظ على (وتعزز و تقوى) أمنها بشتى الوسائل، حتى لو تطلب الأمر طلب قوى (دول) أخرى لكي تساعد على صيانة هذا الأمن.
بهذا - وعلى أنماط مماثلة- أصبح التعامل مع تحليل السياسة الدولية يتم من خلال افتراضات دقيقة يقوم عليها ومن خلالها البناء النظري الذي يساعد على فهم وتفهم الأحداث الدولية بشكل أعمق وأشمل مما كان سائداَ في السابق.
ولم يقتصر النضج والتقدم في تحليل السياسة الدولية على ما تم ذكره، بل لقد أتت مدارس أخرى لا يتسع المقام لتتبع وذكر – تطورات- أغلبها، والتي أسهمت مجتمعة على تجاوز إشكاليات التحليل في السياسة الدولية.