هل سيصبح الصندوق الدولي محط فوائض نفطنا؟

كانت ولادة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي من النتائج الجانبية لمعاهدة برتن وود عام 1944م وهما أشبه ما يكونان بالذراع البوليسية المنظمة والمراقبة والمساعدة لتنفيذ وتوظيف قرارات تلك المعاهدة التاريخية. وكان دور البنك الدولي يتمحور حول الإنتاج الحقيقي من أجل محو الفقر وما يلحق بذلك من تطوير الصحة والتعليم والاعتناء بالمياه والطفولة وحقوق الإنسان وحريته وكرامته إلى آخر العوامل التي تؤدي إلى نمو الإنتاج الحقيقي, وبالتالي محو الفقر وهو خارج موضوع مقالنا اليوم. وأما صندوق النقد الدولي فقد كان هدفه هدفا نقديا يتمثل في المحافظة على استقرار أسعار الصرف بين العملات الدولية ويدخل في ذلك منع التضخم النقدي وضمان التوازن لميزان المدفوعات العالمية.
بُنيت معاهدة برتن وود على نظرية نظام الربط للعملات، وكان تطبيقها يتمثل في أن تربط الدول الأعضاء عملاتها بسعر صرف ثابت مع الدولار، كالجنيه الاسترليني يساوي دولارين مثلا، على أن تربط أمريكا الدولار بالذهب متعهدة بإعطاء أونصة من الذهب لكل من يأتيها بـ 35 دولارا.
وأما صندوق النقد الدولي فقد بُني على نظرية المنظمة الدولية (على شاكلة الأمم المتحدة) ومهمته مراقبة ثبات أسعار الصرف بين الدول والتدخل للمساعدة على ثبات معدل الصرف كتقديم القروض النقدية لسد عجز تجاري أو لتصبح احتياطيات نقدية أجنبية يُشترى بها الفائض من عملات تلك الدول لتجاوز الأيام العصيبة. وكما أن آخر العلاج الكي، فقد كان آخر الحلول هو تعديل سعر الصرف, فكان الصندوق يقوم بتنظيم تعديل أسعار الصرف هبوطا في حالة عجز ميزان المدفوعات وارتفاعا في حالة فيضان ميزان مدفوعات التجارة الحقيقية والنقدية بين الدول.
وعلى كل حال فقد كان ذلك كله نظريا، وأما تطبيقيا فقد كان صندوق النقد الدولي، ولا يزال، البوليس الذي تديره سلطة نظام دكتاتوري. فقد مارس الصندوق دور المراقب والمحاسب والمعاقب لمدة 27 عاما على جميع دول العالم ما عدا الولايات المتحدة التي أغرقت العالم بالدولارات, والصندوق أعمى لا يبصر, أصم لا يسمع, أبكم لا يتكلم حتى توجت الإمبراطورية ذلك الإغراق أن نقضت العهد ورفضت المعاهدة وأوقفت الذهب ورفضت استبداله بالدولار وأعلنت حلول الدولار عرش الأثمان رسميا مكان الذهب.
في ظل نظام الذهب لا تحصل الفوضى وعدم الانضباط بين أسعار العملات والفوائد والتضخم بين الدول كما هو حاصل الآن، وليس هناك أسواق رائجة للعملات, فلا مجال للمضاربة طالما أن أسعار العملات ثابتة. وبانهيار نظام برتن وود ظهرت أسواق العملات لتنتزع زمام السلطة من صندوق النقد الدولي فأصبحت تقوم بدور البوليس الحر المستقل عن السلطة الدكتاتورية والذي يراقب الدول جميعها دون تفريق ويعاقبها في آن واحد، وانهار الدور البوليسي لصندوق النقد الدولي وحانت شمسه للأفول. (أكثر من تريليوني دولار تباع وتشرى يوميا الآن في سوق العملات كفيلة ليس فقط بكشف عجز ميزان المدفوعات بل وكشف حتى النوايا للتلاعب بطبع الأوراق النقدية).
لم تغرق مركب صندوق النقد الدولي تماما بسبب انهيار نظام برتن وود بل غربت شمسه كبوليس دولي لمراقبة النظام المالي, بينما احتفظ بدوره الاستشاري والبحثي ودوره السياسي الذي يتمثل في الضغط على الدول التي تمر بأزمات مالية. فالصندوق يقدم قروضا لدعم العملات النقدية للدول, وقد يكتفي بتقديم التعهدات والإشادات والضمانات فيدعم النظام النقدي للدولة المنكوبة.
توجيه هذا الدعم والحصول عليه لا يكون إلا بتصويت الدول المشاركة فيه كل على قدر مساهمته المالية في رأسمال الصندوق والتي تشكل أمريكا أعظمها، بمساهمة تقارب 38 مليارا من حقوق السحب الخاصة (عملة الصندوق والتي تساوي الآن ما يقارب 1.5 دولار). هذه المساهمة أعطت أمريكا أكبر صوت في الصندوق بما مقداره 17 في المائة، إضافة إلى حق النقض الفيتو والذي لا يتأتى لغيرها، فأكبر المساهمين من بعدها، اليابان وألمانيا، لا يتجاوز نصيب كل منهما 6 في المائة من التصويت والمساهمة في الدعم النقدي للصندوق، بينما حق النقض لا يمنح إلا لمن يسهم بأكثر من 14 في المائة. ويأتي من بعدهما الصين والسعودية، حيث تزيد حصصهما على 3 في المائة لكل منهما أي بمقدار ما يقارب عشرة مليارات دولار لكل منهما (سبعة مليارات من حقوق السحب الخاصة، عملة الصندوق).
وبهذا الحق، حق التصويت والفيتو، مارست أمريكا الكثير من ألاعيبها المالية والسياسية في الضغط على دول العالم من أشهرها أزمة نمور أسيا عام 1997م.
تناقلت وسائل الإعلام الغربية ومقلدوها من وسائل الإعلام العربية من أن هناك ضغوطا على الصين والسعودية من أجل رفع حصتهما بما يقارب 100 مليار دولار في رأسمال صندوق النقد الدولي. والذي أعتقده والله أعلم أن هذا الخبر كخبر الكهان، أي أنه كلمة أُسترقت وأسطورة بنيت عليها. هذا الخبر مردود صحته من الناحية السياسية ومن الناحية الاقتصادية ومن الناحية العقلية.
فأما وجه رده سياسيا فالمساهمة بـ 100 مليار من الصين أو السعودية في رأسمال الصندوق هو انتزاع لسلطة الضغط والتحكم بالصندوق من الاحتكار الأمريكي وتسليمها مناصفة بين الصين والسعودية، أي إلى دول لا ترغب أمريكا في أن يكون لها تأثير قوي في سلطة الصندوق. فالصين ستستثمر هذه المساهمة في مد نفوذها في دول جنوب آسيا وآسيا الوسطى. أما السعودية فستستثمر هذه المساهمة في الضغط على سياسات أمريكا في الشرق الأوسط خاصة إيران وإسرائيل. وأما أمريكا فستحتاج إلى التبرع بأكثر من حصتها الحالية لكي لا تفقد حقها في الفيتو.
وأما وجه عدم قبوله من الناحية الاقتصادية فيتمثل في النظر إلى ما هو المردود الاقتصادي الذي ستحصل عليه الصين والسعودية من بذلها 100 مليار دولار لرفع رأسمال الصندوق. مبالغ كهذه لا تبذل من أجل جبر الخواطر، غزة وهي لحمنا ودمنا لم يقدم لها إلا مليار واحد فكيف تقدم 100 مليار لمنظمة ليس لنا فيها ناقة ولا بعير، أفلا نتفكر قليلا؟!
وهذا الخبر مردود عقلا. فهل يعقل، أدبا وبرتوكولا ومنطقا، أن تسهم أمريكا في الصندوق بما يساوي قريبا من 1.5 في المائة من ميزانية حكومتها (0.4 في المائة من الناتج المحلي الأمريكي) وتطلب من السعودية أن تسهم بما يساوي 80.0 في المائة من ميزانيتها (21.0 في المائة من الناتج المحلي السعودي)؟ أضف إلى ذلك أن السعودية تسهم فعليا الآن بما مقداره يساوي قريبا من 8.5 في المائة من الميزانية أو 2.1 في المائة من الناتج المحلي، أي بالمقارنة النسبية يظهر لنا أن حصة السعودية المساهمة بها الآن تساوي قريبا من خمسة أضعاف حصة أمريكا، وبالمقارنة تظهر فوائد الأرقام!.
وعلى كل حال فبما أن الصين والسعودية تتمتعان بفوائض نقدية ضخمة يمكن أن تستخدم في استثمارات تحت مظلة الصندوق الدولي بدلا من استثمارها في السندات الحكومية الأمريكية، فإنه من غير المستبعد أن يكون هناك عرض استثماري أن تسهم الصين والسعودية ماديا في صندوق النقد الدولي عن طريق الاستثمار في سنداته، أو بتقديم التعهدات عن طريق الاستثمار بتوفير الضمانات البنكية لتسهيل التجارة وتحصيل الفوائد من هذه الضمانات، أو الاستثمار بتوفير الاحتياطيات النقدية لبعض الدول عن طريق تبادل الدولار بعملاتهم المحلية كرهن مع أخذ الفوائد على الدولار، أو ببساطة تقديم الاحتياط النقدي لعملاتهم بفوائد أعلى، أو بأي طريقة استثمارية أخرى تُنوع استثمارات البلدين بعيدا من السندات الأمريكية إلى استثمارات تحت مظلة صندوق النقد الدولي تعطي عوائد أكبر على حساب بذل مخاطرة أكبر.
وختاما: فإن لي وقفة هنا لا يصلح أن يقصر المقال عن ذكرها. إن خير وأفضل وأربح استثمار لثروات الأوطان هو الاستثمار في حضارة الأوطان، في بنيتها التعليمية والثقافية والتحتية، وأعلى العوائد ليست في السندات الأمريكية ولا في غيرها بل تكمن في الحفاظ على النفط في مكامنه، فالنفط مستقبل الأجيال ودم الحضارة وهو بحق الثروة الاقتصادية والقوة السياسية المقبلة، فلا ننحره على مذبح المسؤولية الدولية بينما تكتنزه أمريكا وتُخفيه في غياهب ألاسكا تحت مظلة حماية البيئة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي