النموذج الغربي لحقوق الإنسان (2 من 2)
المُلاحظ أن التعاطي مع الغرب يكتنفه كثير من الإشكالات المنهجية, فهو مازال يترنح بين الأطراف، إما الانسياح والانصهار في الفكرة الغربية والتبشير بها، وإما الطرف المقابل التشنيع والاتهام والمصادمة، وكلا الطرفين مجانب للموضوعية والعقلانية التي تقتضيها الوسطية. إن التعاطي مع الغرب يتطلب فهما عميقا للشخصية والثقافة الغربية وجذورها الفلسفية، سواء كان هذا التعاطي حوارا أو دعوة أو نقدا، الأمر الذي يتطلب تحفيز الدراسات المتأنية لواقع الغرب وجذوره التاريخية والفلسفية، أو ما يمكن تسميتها دراسات الاستغراب قياساً على دراسات الاستشراق، وإني أجد هذه المقدمة مهمة قبل الولوج في صلب موضوعنا.
تحدثنا في المقال السابق عن القانون الطبيعي بوصفه أقدم تصور ذهني للأسس الفلسفية لحقوق الإنسان في المنظومة الغربية، ولقد أدت فكرة القانون الطبيعي إلى (نظرية العقد الاجتماعي) التي يمكن اعتبارها إعمالاً للقانون الطبيعي في مجال السياسية أو في تحديد علاقة الحاكم بالمحكوم، والعقد الاجتماعي يفسر وجود الدولة في أصل نشأتها إلى عقد اتفق الأفراد في مكان ما بمقتضاه على الخروج من حياتهم الفطرية البدائية إلى تكوين مجتمع سياسي يخضع لسلطة عليا، وبناء عليه فإن الانتقال من حياة العزلة إلى حياة الجماعة تم على أساس التعاقد بين هؤلاء الأفراد، وأما الغاية من ذلك التعاقد فهي تنظيم وحماية وحفظ كل ما يمتلكه الفرد من حقوق طبيعية.
وأشهر منظري وفلاسفة العقد الاجتماعي ثلاثة هم: توماس هوبز، جون لوك، وجان جاك روسو، وإذا كان فلاسفة العقد الاجتماعي يتفقون على وجود حياة طبيعية سابقة وجود الجماعة، فهم يختلفون في طبيعة هذه الحياة، كما اختلفوا في تكييف هذا العقد وتحديد أطرافه وبيان أهدافه.
فقد جاءت آراء هوبز في كتابه (التنين) أن الناس بطبعهم أنانيون تماما يلتمسون بقاءهم وسلطاتهم والحصول على القوة. ولقد قال هوبز بحياة فطرية سابقة عن نشأة الجماعة، إنها حياة فوضى وصراع اضطر الأفراد معها على التعاقد لإنشاء الجماعة السياسية وهذا التعاقد تم فيما بينهم واختاروا بمقتضاه حاكما لم يكن طرفاً في العقد ولم يرتبط لذلك تجاههم بشيء، خصوصاً أن الأفراد تنازلوا بالعقد عن جميع حقوقهم الطبيعية، ويرى هوبز أن الحاكم لا يكون طرفاً في العقد، وإنما يعقده كل الأفراد عداه، ويتنازلون بمقتضى العقد للحاكم عن جميع حقوقهم دون قيد أو شرط، فسلطته مطلقة، ولا يسأل عما يفعل، وعلى الأفراد الخضوع والطاعة المطلقة.
وأما جون لوك فقد تابع سلفه هوبز في أن الجماعة كانت تحيا في فوضى، وأن الأفراد كانوا يتمتعون بحريتهم في ظل القانون الطبيعي، ولكن لغموض هذا القانون وتشابك المصالح، رأوا أن يتركوا هذه الحرية المطلقة إلى نوع من النظام يقوم على أساسه التعاون بين الجماعة، فاتفقوا على اختيار أحدهم لتولي أمورهم، ويختلف لوك عن هوبز، كذلك في أن الأفراد لا يتنازلون عن كل حقوقهم للحاكم، وإنما يحتفظون بالحريات والحقوق الأساسية لهم، كذلك فإن الحاكم يكون طرفاً في العقد فإذا أخل بشروطه جاز عزله.
وأخيراً اكتملت الفكرة على يد جان جاك روسو (1778) في كتابه (العقد الاجتماعي) مع فارق أساسي بينه وبين هوبز، ذلك أن روسو يرى أن الحالة الطبيعية للإنسان هي الفترة الذهبية من تاريخه، ولكن الإنسان بفعل الأطماع وبتأثير (الأديان!) تجرد من النقاء الطبيعي، وانتقل إلى حالة من الفوضوية اقتضت وجود عقد اجتماعي لتنظيم حياة الناس ومحاولة العودة بهم إلى الحالة الطبيعية، أما الحاكم طبقا لنظرية روسو فهو ليس طرفا في العقد، ولكنه وكيل عن الجماعة (الأمة) وفقاً لإرادتها، ولها حق عزله متى أرادت ذلك.
وحين يطالب روسو بفصل السياسة عن الدين، فإنه يتهم الأديان بأنها هي التي سببت هذا الفصل حيث نجده يقول: 'إن الشعوب القديمة كانت تعبد الملوك، وكان لكل دولة ملكها وإلهها في الوقت نفسه، فكانت السياسة والدين شيئاً واحداً، ولكن الأديان, ومن بينها المسيحية, فصلت بين العالم المادي والعالم الروحي, فهي تتعلق بالعالم الروحي ولا تشرع للمجتمع السياسي، فلماذا لا يكون لهذا المجتمع دين سياسي خاص؟"
ولقد كانت مؤلفات روسو حرباً ضد المجتمع وضد الله كما وصفه بعض الباحثين الغربيين، ويعد كتابه "العقد الاجتماعي" إنجيل الثورة الفرنسية, إذ قامت على وحي من مبادئه وآرائه. والعجيب أن سيرة روسو هذا سيرة بائسة وله أفعال مشينة لا يقوم بها أي إنسان سوي, وقد ذكرها في كتابه (اعترافات روسو) .
تعرضت نظرية العقد الاجتماعي لانتقادات كثيرة من الفلاسفة الغربيين أنفسهم مثل ويلز وغيره, ومن أبرز أوجه النقد، كون النظرية في أساسها فكرة خيالية تفتقد الأدلة التاريخية على وجود هذا التعاقد وزمنه ومكانه، والتاريخ يحدثنا عن جماعات لا عن أفراد, فالنظرية في أساسها بنيت على افتراض مؤداه عيش الأفراد قبل العقد في عزلة, وهذا ما تكذبه كتب التاريخ، بل الإنسان كائن اجتماعي بطبعه لا يعيش إلا في مجتمع، كما أن فكرة العقد غير متصورة لاستحالة اتفاق جميع الأفراد على هذا العقد، ولذلك قيل في حق هذه النظرية إنها أكبر أكذوبة سياسية عرفها التاريخ، ومما يؤخذ على هذه النظرية إغفالها دور الدين، بل هاجم فلاسفتها الدين وطالبوا بعزله من الحياة، كما فعل روسو، كما أن فكرة العقد الاجتماعي يمكن أن تؤدي إلى نتائج متباينة متناقضة، وفق الأهواء والأفكار المسبقة التي تسيطر على القائلين به. (هوبز، تأييد الاستبداد، لوك، ضمان الحرية والسيادة).
إن أوروبا عاشت قروناً طويلة –وما زالت- تتلمس البحث عن الجهة والغاية في ظل ضياع البوصلة الإيمانية، وقد أرهقتها هذه المحاولات في ظل إقصائها الدين مما آل بها إلى عبثية ما بعد الحداثة! فهل يستطيع النموذج الغربي لحقوق الإنسان أن يصمد، ناهيك عن تعميمه وقد استدبر الوحي وفقد البوصلة؟!
خاطرة
قتل امرئ في غابةٍ جريمةٌ لا تغتفر
وقتل شعبٍ آمنٍ مسألةٌ فيها نظر!