الشعر.. آه لو أعرفه!
إن حساسية البعض بين السمفونيتين لا تزال مثار قسمة على واحد، فالأمر لا يقتصر على صيغة "المحكي" ولغة طرحه، فالصراع قائم على سيف ورمح داخل إطار الشعر الفصيح، فالفئات مختلفة القالب – متفقة المضمون- يشمرون عن سواعدهم ويبرون أقلامهم لغرسها في صدور الآخرين لا للكتابة لهم! فضلا عن أن صراع الأجيال في الأدب عموما كان تقاليد الأمة وليس طارئا، فكيف لا نرى صراعا بين لغة تظن أنها الأم وتسمي الآخر هجينا، وبين أخرى تملأ بيوت الناس بالرياحين، هي إذن مسؤولية الطرفين لأن من كتب بالفصحى جرها نحو الانغلاق وقصرها على فئة خاصة، وشعراء القصيدة المحكية - إلا البعض منهم- حولوا قصائدهم إلى مناسبات متنقلة، ولم يدركوا أن الشعر أكبر من هذا بكثير، ليجروا على العموم السطحية، ووصمت قصائدهم بعدم استيعاب الموضوعية المطلوبة للتجربة العامة. ولأن الدراما متوافرة في قصائد الكبار من الشعراء وهو ما ينطبق ويتواءم مع شروط الحداثة الشعرية في كل اللغات واللهجات، وبما أن الشعر شعر حتى وإن سكت عنه ومارس صمته بألوان شفافة، لهذا كانت الحاجة إلى نقاد متخصصين وأكفاء للقصيدة العامية، ينظرون لها ويقربون الناس من فهم الشعراء المثقفين الواعين فنيا وأدبيا وأخلاقيا، لكي لا تبقى القصيدة المحكية بلا أب شرعي.
وما المانع من إنزال الشعر الفصيح من عرشه العاجي المغلق على ذاته إلى الواقعية الإنسانية المعاشة، والسمو بروح "العوام" بالقصيدة الناطقة بلهجتهم عن طريق الصورة والبناء والموضوع، ليلتقيا في فضاء رحب؟ من قال إن لا وجود للشعر المحكي هو أعمى وغيور ومعقد، فالأمر يصبح بالنسبة للشاعر ليس وجودا في شكلين، ولا قولا لشعرين، فالشاعر دائما واحد وبالنسبة للمتلقي فهو يقع تبعا للثقافة التي جبل عليها، فمن تعود نمطا معينا يحتاج إلى إغراء كبير لكي يمعن في استساغة نمط آخر، وكل من يقنن الشعر والشعراء في أطر هو لا يفقه ولا يستحق أن يقرأ أو يستمع إلى الشعر، وهؤلاء للأسف كثر، بلالين ثقافية فارغة لا تؤمن إلا بالتكتل ضد الآخر حتى ولو كان جمالا، وقد قيل في التراث العربي كلمة صادقة، تساءل صاحبها عن كينونة الشعر وسر جماله "الشعر شيء..آه لو أعرفه"، الانطلاق من التساؤل عن سر جمال وقبول الشعر أيا كان شكله، أجدى من البحث عن مثالب القالب، والتطور يجب أن يكون في جمال الصورة والبناء الدلالي للقصيدة، لا تلاعبا لغويا فارغا، بل عالما جديدا من التعبير، فهو لغة وأسلوب يحلق قائله بجناحيه في سماء الشعر.