حرمان الأبناء من الإرث وإنفاذ الوصية يعصفان بالعلاقات الأسرية
أجمع عدد من العلماء والدعاة على أهمية الوصية الشرعية والالتزام بها من قبل الورثة, وأن أي تعرض لها يعني عدم احترام رغبة المورث. واستثنى العلماء من ذلك من يحرم الورثة إرثهم وتجيره للغير أو من يخص بعض الأبناء دون غيرهم بشيء من الإرث.
وتحدث في البداية الدكتور ناصر الأحمد قائلا إن الوصية سميت بهذا الاسم لأنها تصل ما كان في الحياة بما بعد الممات، ولأن الذي يوصي قد وصل بعض التصرف الجائز في حياته ليستمر بعد موته. فأول أحكام الوصية، أن هناك وصية واجبة ووصية مستحبة.
أما الواجبة: فذلك حين يكون على الإنسان حقوق لغيره، فهذه يجب عليه إثباتها لئلا تضيع على أصحابها, قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم, في الحديث الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما: "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين – وفي رواية – ثلاث ليال إلا ووصيته مكتوبة عنده", قال ابن عمر ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله, صلى الله عليه وسلم, قال ذلك إلا وعندي وصيتي، متفق عليه.
أما الوصية المستحبة: فهي لمن لم تكن عليه حقوق ولم تلزمه واجبات، فهذا يستحب له أن يوصي بشيء من ماله يصرف في سبيل البر والإحسان ليصل إليه ثوابه بعد وفاته، وهذا من لطف الله بعباده لتكثير الأعمال الصالحة لهم، وهذا باب واسع من الوصايا لا تنحصر، فلك أن توصي بشيء من مالك في عمارة المساجد وخدمتها، أو بناء الأربطة والمساكن للمحتاجين، أو في قضاء ديون المعسرين، أو في الصدقة على المحاويج أو في الإنفاق على طلبة العلم وتعليم القرآن، أو تعبيد طرق المسلمين، أو طبع الكتب النافعة ونشرها، أو الوصية بالحج والأضاحي عن نفسك أو غيرك أو غيرها وغيرها من أبواب البر والخير الإحسان.
لكن هذه الوصية لمن له مال كثير، وورثته غير محتاجين لقوله تعالى: "كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية" والخير هو المال الكثير – "وإنه لحب الخير لشديد".
فيقول أهل العلم إن الوصية تكره من رجل ماله قليل وارثه محتاج، وذريته ضعفاء, فالأولى أن يبدأ بهم ولا يقدم عليهم وصيته لأنهم أحق بماله وأولى بمعروفه، وأعظم في ثوابه.
قسمته في الميراث
ومن جانبه, أوضح الشيخ محمد صالح المنجد أنه لا تجوز الوصية لبعض الأبناء وحرمان آخرين لمخالفتها لمقتضى الشرع والعدل الذي أمر الله به - خاصة بين الأولاد, قال الله تعالى: "لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا" النساء (7),
ثمّ قال عزّ وجلّ: "يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا" النساء (11).
ثمّ هدّد الله تعالى الذين يخالفون قسمته في الميراث ويتلاعبون في ذلك بقوله سبحانه: "وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ"النساء (14).
فمن منع بعض أولاده من الميراث أو أعطاهم أقلّ من حقّهم أو زاد آخرين أكثر من حقّهم الشّرعي أو أدخل من ليس بوارث في الميراث فهو عاصٍ آثم مرتكب لكبيرة من الكبائر، وكذلك لا تجوز الوصيّة لوارث لأنّ له حقّا شرعيا محددّا وذلك لما رواه أحمد وأبو داود والترمذي - رحمهم الله - عن أبي أمامة - رضي الله عنه - أن رسول الله, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث" سنن الترمذي 2046.
فإن ثبت ثبوتا شرعيا ما يوجب كفر بعض الأولاد كترك الصلاة حال وفاة الأب فإنه لا إرث لهم وإن لم يوص بذلك لقول النبي, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يرث المسلم الكافر والكافر المسلم "متفق على صحته .
أمّا إعطاء بعض الأولاد عطيّة دون الآخرين دون سبب شرعي فهو حرام وظلم أيضا ويوغر صدور الإخوان بعضهم على بعض, والدليل على التحريم ما رواه البخاري ومسلم, رحمهما الله, عن النعمان بن بشير, رضي الله عنه, أن أباه أتى النبي, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فقال: إني نحلت ابني هذا غلاما كان لي فقال عليه الصلاة والسلام: " أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ فقال: لا. قال: فارجعه". ولفظ مسلم فقال: "اتقوا الله واعدلوا في أولادكم". فرجع أبي في تلك الصدقة .
أمّا إن كانت العطيّة لأحد الأولاد لسبب شرعي كفقره أو دين عليه أو نفقة علاجه فلا حرج في ذلك، والله تعالى أعلم.
الوصية الواجبة
من جهته, أوضح سماحة المفتي العام للمملكة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ أن الله أمر بتوثيق الحقوق فأمر بكتابة الدين: "ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَ?كْتُبُوهُ" [البقرة:282]، وأمر بالإشهاد على البيوع: "وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ" [البقرة:282]، وطُلِب توثيق البيع بالرهان إن تعذَّرت الكتابة والشهادة: "وَإِن كُنتُمْ عَلَى? سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَـ?نٌ مَّقْبُوضَةٌ" [البقرة:283]، وجاء في السنة الرهن في الحضَر، ثم إنه تعالى أرشد المسلمين أيضاً إلى أمرٍ فوق ذلك؛ بأن وكَل ذلك الأمر إلى إيمانهم فقال: "فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ ?لَّذِي ?ؤْتُمِنَ أَمَـ?نَتَهُ وَلْيَتَّقِ ?للَّهَ رَبَّهُ" [البقرة:283].
ومن أجل هذا شُرع للمسلم، بل تأكَّد في حقه، بل قد يكون واجباً عليه أن يوصيَ بما عليه من الحقوق للخلق، من الأمور التي قد لا يكون فيها كتابة ولا شهادة ولا رضا، وإنما أمرٌ بينه وبين من يتعامل معه، وإن أُهملتِ الوصية ضاعت الحقوق، وأكل الورثةُ ما لا يستحقّون، وأخذوا ما ليس لهم، وقد ينتفعون بها لجهلهم بأصلها، والإثم والوزر على من أهمل وفرَّط حتى ضاعت حقوق الخلق عند الورثة، ولأجل هذا طُلِبت الوصية: "كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ?لْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا ?لْوَصِيَّةُ لِلْو?لِدَيْنِ وَ?لأقْرَبِينَ بِ?لْمَعْرُوفِ حَقّا عَلَى ?لْمُتَّقِينَ" (البقرة:180)، وقال جل وعلا: "ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ آمَنُواْ شَهَـادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ?لْمَوْتُ حِينَ ?لْوَصِيَّةِ ?ثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ" الآية (المائدة:106).
إذاً فالوصية مطلوبةٌ في حق من له تعامل مع الناس بالبيع والشراء، أو إنسان توضَع عنده الأمانة، ويُعهَد إليه بحفظ شيء من الحقوق، فمن يتعامل مع الناس بيعاً وشراءً يكون في ذمَّته للناس حقوق، وفي ذممهم له حقوق ومعاملات مستمرة لا بد أن تكون عنده وصية مكتوبة مسجَّلٌ فيها ما له وما عليه، ضبطاً للحقوق وحفظاً للأموال من الضياع.
لذا فإن من يتعامل مع الناس إذا لم يضبط تلك الأمور ويحفظها فإن ذلك يسبِّب ضياع الحقوق، ويتحمَّل آثام الناس، يتحمّل الأوزار والآثام يوم القيامة، ولأجل هذا أرشد النبي, صلى الله عليه وسلم, أمته لذلك، أي: أرشدهم إلى الوصية التي تُحفظ بها الحقوق فيقول صلى الله عليه وسلم: "ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وعنده شيء يوصي فيه إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه"، قال ابن عمر راوي الحديث: فو الله ما تركت ذلك منذ سمعته من رسول الله 1[3].
فإن الله سائلُك عن أموال الناس التي عندك، عن حقوقهم التي عندك، فأنت مسؤول عنها يوم القيامة، فإن تركتها لمن بعدك وأهملت الوصية ظنَّ من بعدك أن هذه أموالُك ورثوها منك، وانتفعوا بها.