زمان الريل

زمان الريل

هذا المقال الذي "أعجبنا" نقلناه لكم هو للكاتب العراقي "خالد القشطيني" نشر في صحيفة الشرق الأوسط بتاريخ 1 فبراير 2004م الموافق 10 ذو الحجة 1424هـ العدد 9196.

كان من أول مظاهر العصرنة والتحديث في العراق إقامة السكك الحديدية التي بدأ بها الألمان قبل الحرب العالمية الأولى في سعيهم للوصول إلى الهند وشرق آسيا عبر ما سمي بقطار الشرق السريع، من إسطنبول إلى الموصل ثم بغداد فالبصرة، إذ كانت بريطانيا قد استحوذت على طريق الهند بحراً بالسيطرة على قناة السويس، فقد فكر الألمان بتحقيق نفس الاتصال براً بالقطار. أنجزوا جزءا منه ثم جاء الإنجليز بعد الحرب فأكملوا المشروع. تجلت هاتان المرحلتان بتسمية القطار في العهد العثماني بالشماندفر وهي كلمة فرنسية. ولكن الجمهور سرعان ما استبدل الشماندفر بالريل وهي كلمة إنجليزية. ثم عرف بالقطار بعد الاستقلال. ثلاث تسميات تعبر عن الحكم السياسي في العراق. لم يفطن البعثيون لتغيير التسمية في مرحلتهم ليطلقوا على القطار اسم "صدام حسين". ربما تحاشوا ذلك خوفا من سوء العاقبة. فلا أعتقد أن الرئيس السابق سيرتاح لسماع الناس يتمثلون بقطار على اسم الرئيس.
ما إن دخلت السكك الحديدية في العراق حتى تحولت إلى جزء من التراث العراقي والفولكلور الشعبي. شيد الألمان والإنجليز محطات القطار بعيدا عن المناطق الآهلة بالسكان، وأحيانا عن أي شيء ينم عن الحياة. أكثر هذه المحطات كانت في جهات قفراء. وعندما ينزل المسافر في القطار ليلا سرعان ما يواجه الظلمة والسكون يكتنفه، ولا سيما إذا كان غريبا عن المنطقة. عبر عن هذا الموقف المغني العراقي بأغنية شاعت في العشرينيات: ذبني السريع بليل، أنشد وأدوّر.
كان هناك قطاران يربطان بغداد بالبصرة، أحدهما "السريع" ويمشي ليلا والآخر "البطيء" ويمشي نهارا. يعبر المغني الشعبي عن عواطف من يركب القطار وينزل في أرض قفراء لا يدري أين يعثر على حبيبه. إنه أشبه بالشاعر الجاهلي في وقوفه على الأطلال.
تجاوب مظفر النواب مع هواجس هذا الموقف في قصيدته الشهيرة التي اعتبرها من أروع عيون الشعر العالمي "الريل وحمد" تصف القصيدة مشاعر امرأة مسافرة يمر قطارها بقرية أم شامات التي فيها يقيم حبيبها حمد، فتحتدم العواطف في صدرها وهي تشم رائحة القهوة المطيبة بالهيل تسري في بيت حبيبها:
مرينا بيكم حمد، واحنا بقطار الليل
وسمعنا دق قهوة، وشمينا ريحة هيل
يا ريل، صيح بقهر، صيحة عشق يا ريل
هودر هواهم، ولك، حدر السنابل قطا
ثم تتوسل المرأة المولهة بالقطار أن يتريث ولا يجري سريعا:
يا ريل بالله بغنج، من تجزي ام شامات
ولا تمشي مشية هجر، قلبي بعد ما مات
تتوسل بالفراكين (عربات القطار) إذ تمشي، الهوينا كئيبة حزينة:
جيزي المحطة بحزن، وونين يافراكين
ما ونسونا بعشقهم، عيب تتونسين
وهودر هواهم، ولك، حدر السنابل قطا

الأكثر قراءة