منابر بلا خطباء؟
الخطابة من أقوى وسائل الإقناع، وهي أفعل في النفوس من الكتابة، وشتان بين الكلمات الناطقة التي تدب فيه الحياة والكلمات الجامدة، ولا شك أن لروح الاجتماع أثر كبير في النفوس.
ومعظم خطباء هذا الوقت أقرب إلى الركاكة والفهاهة، وقد أتى حين من الدهر على كثير من البلاد الإسلامية وهي تزهو بخطباء كبار ملكوا ناصية البيان، وكانت كلماتهم تسري فيها روح تدخل إلى قلوب السامعين بلا استئذان.
وقد كان الناس يعظمون أمر الخطابة، ويقدرون أثرها في التوجيه والتأثير.
وقد ذكر بعض المؤرخين أن أهل دمشق كان عندهم خطيب جامع عظيم، ولما مات تحيروا فيمن يخلفه، وبحثوا في دمشق ولم يجدوا من يماثله في الخطابة حتى سمعوا عن خطيب عظيم في قرية مجاوره فأتوا به! ولما تشاغل الناس وضعف الحس الديني تساهل الناس في أمر الخطابة، وأصبحت من جملة العادات، وانبرى للمنابر أُناس فاقدين للأهلية والموهبة، فمات بموت الخطابة أثر خالد من آثار العربية والإسلام!
ومات الارتجال، وندر أن تجد في الخطباء والسياسيين من يُحكم إلقاء خطبة دون ورقة. وقد دلت التجارب على أن السامعين يتبرمون بالخطيب القارئ، ويشيع السأم في نفوسهم، وبخاصة حين يلمحون أكداس الورق أمامه، وإذا كان إلقاؤه ضعيفاً جاءت عبارته بمثابة قطع الثلج تتساقط فوق رؤوس السامعين ! والخطب المكتوبة تدعو للإطالة والإسهاب فتبعث على الملل.
والإنسان يولد خطيباً، كما يولد شاعراً، وتلك الملكة وليدة الفطرة، لا تنمو وتؤتي ثمارها إلا بالمران والصقل، فالخطابة إذن موهبة وفن معاً.
وقد كان (ديموستين) خطيب اليونان العظيم في حداثته يملك استعداداً فطرياً لم يصقل بالممارسة، وكانت نفسه تطمح إلى الخطابة فكان كل يوم يذهب إلى البحر ثم يقف أمام الموج المضطرب، فيصيح الصيحات العالية، وما لبث أن تغلب على الضعف والقصور وبات في طليعة الخطباء القادرين!
وإذا أردنا ولادة جديدة للخطابة فلا بد أن نفتح مساحات كبيرة للحرية، وكلما زاد نطاق الحرية وكان للفرد في المجتمع صوت مسموع في البيت والمدرسة والجامعة والدائرة والمنطقة، تولدت مواهب قادرة على الانطلاق والاسترسال والتدفق في الكلام.
ولا شك أن فرز المواهب واستخلاص النابهين من أصحاب الاستعداد الفطري وتعاهدهم ورعايتهم عبر مراكز متخصصة مؤذن ببزوغ شمس الخطابة من جديد.