أخلاق المصريين

أخلاق المصريين

في زمن الاحتلال الإنجليزي لمصر، ذكر أحد الأدباء السوريين أنه بينما كان راجعاً من بلاده إلى الأزهر في مصر، لقيته سيدة في ميناء يافا وكلمته بلهجة مصرية وسألته عما إذا كان ذاهباً إلى مصر فأجابها بالإيجاب، فقالت: أريد أن تحمل معك هذه الرسالة إلى أمي. فقال في نفسه لا بد أن يكون لهذه الرسالة شأن وإلا لكانت السيدة وضعتها في البريد - والأجرة قرش واحد - فأخذها ووعدها أن يوصلها. ولما بلغ القاهرة حدثته نفسه أن يضع الرسالة في البريد تخفيفاً من عناء البحث عن بيت أمها، ولكنه رجح أن يحملها بنفسه، وبعد أن بحث عن دارها في حي السيدة زينب اهتدى إليها، ولما فتحت له صاحبة البيت وعرفت أن معه رسالة من ابنتها أخذت تبكي، ثم رجته أن يفتح الرسالة ويقرأها عليها لأنها لا تحسن القراءة ففعل، وهم بالانصراف، فرجته أن يتريث حتى تأتي ابنتها وتسمع هي أيضاً رسالة أختها، معتذرة أنها مثلها لا تقرأ ولا تكتب، فجاءت ابنتها بعد حين وقرأ عليها الرسالة، واستأذن بالذهاب فتوسلت إليه الأم أن ابنها يحب أن يسمع رسالة أخته أيضاً، وهو سيحضر بعد قليل ولا بد أن تتغدى معنا، واعتذر ثم ما وسعه بعد إلحاحهم إلا القبول، ولما طعم أراد الانصراف، فقالت من يخرج في هذا الحر؟ ولا بد أن تقيل عندنا فاستجاب لها. ولما تم هذا الإكرام وأحب مغادرة البيت أخذت عليه المرأة العهد أن يزورهم كل أسبوع وأن يعهد إليها بغسل ثيابه. وبعد حين ثار الأزهر على الاحتلال فكان الرجل الشامي من جملة من اعتقل من طلاب الأزهر. وبعد أيام من سجنه سأله مدير السجن إذا كان له زوجة، فقال: لا. قال: رأيت منذ أيام سيدتين تقفان على باب السجن في الشمس ساعات تسألان عنك، فقال: إن لم يخطئ ظني فالسيدتان هما اللتان حملت إليهما الرسالة من يافا، وقص عليه القصة. ولما نظر إليهما تأكد ذلك ورجا السجان أن يمنعهما من حمل طعام إليه بدعوى أن ذلك محظور على السجناء وقد لاحظ أنهما ستطلبان ذلك بلا شك. فلما أبى صاحب السجن إجابة طلبهما، قالتا: إذا كان جلب الأكل ممنوعاً فهل يمنع جلب الشراب؟ فكانتا مدة سجن هذا الشامي تأتيانه كل يوم بمقدار عظيم من السكر والليمون والثلج ليعمل منه شراباً يكفيه ورفاقه في السجن جميعاً. وظلت الأم وبنتها على الوفاء لحامل الرسالة حتى خرج من القطر المصري للمرة الأخيرة.
وهذا مثال صريح من وفاء المصري وكرمه، وإن كانت هذه الأخلاق في أبناء الريف أظهر منها في أهل المدينة.

الأكثر قراءة