من معاركنا الثقافية (2 من 2)
من أقدم وأشهر معاركنا الثقافية، وليست الأهم، هي تلك التي دارت على صفحات جريدة "البلاد" بين الأديبين عبدالقدوس الأنصاري وحمد الجاسر، ثم دخل على الخط الأديب محمد حسن عواد وآخرون، وكان باعثها حرف "الجيم" في كلمة (جدة) وكيف يتمُ تشكيله؟ هل هو بالضم أم بالفتح أم بالكسر؟!
هذه المعركة رغم عدم أهميتها، مقارنة بما تلاها من معارك، إلا أنها أصبحت من أشهر المعارك الثقافية، ولربما أنّ إثارتها في وقتٍ مبكر من تاريخ الصحافة منحها هذه الشهرة. وإلى اليوم ما إن يتم التطرق إلى أي معركة ثقافية إلا وتحضر معركة "جيم" جدة! حتى أصبحت كالنكتة تلوكها ألسن الأجيال المتعاقبة!
سأتجاوز ما دار في ذلك الوقت الباكر، إلى معارك ثقافية عاصرتها في التسعينيات الميلادية، ورغم أهميتها إلا أنها فيما يبدو قد خرجت من ذاكرة الجيل، وتمتاز هذه المعارك بما يمكن تسميته بـ "الردح" بين المتطارحيْن، حتى أن القارئ ليستغرب الحوار والنقاش الذي يهبط أحياناً إلى أدنى مستوياته!
أذكر مثلاً، تلك المعركة الطويلة، بين الفريق يحيى المعلمي وأبي عبدالرحمن بن عقيل الظاهري، وسببها أن ابن عقيل نشر قصيدةً في صحيفة الجزيرة، فتعقّبه المعلمي مبيّناً أن ثلاثة عشر بيتاً منها غير موزون! وزاد المعلمي بأن أعاد صياغة الأبيات وزناً!! فرد ابن عقيل مُسفهاً رأيه، مُعلّلاً أن العمل في قطاع الأمن أنسى المعلمي علم العروض، وأن المعلمي لم يطلب علم اللغة جثواً على الرُكبّ فردّ المعلمي مُقسماً بأنه قد تلقى العلم جثواً على الرُكب، ليس في شقراء، بل في صحن البيت الحرام! ورغم أنه تقاطر على الحلبة عدد من النقاد كالدكتور عثمان الصيني ومعيض البخيتان وغيرهم، وأيّدوا المعلمي، إلا أن ابن عقيل ختم معركته بمقالة كان عنوانها (ولو ). وهذا العنوان لوحده يُنبئ عن مضمون المقال.
ذات مرة أصدر الشيخ عبدالله بن خميس كتابه "معجم جبال الجزيرة" وأهدى نسخةً لصديقه الأديب عبدالعزيز الرويس، الذي قرأ المعجم وبدت له ملاحظات، بعث بها إلى صديقه عبر البريد، غير أن ابن خميس انتفض ورد عليها في صفحة كاملة في صحيفة الجزيرة! وكان الرويس وقتها خارج المملكة، وما أن وطأت قدماه أرض المطار عائداً، حتى أخبرته "جهينة" بما كان من صديقه! فرد رداً ساحقاً ماحقاً ساخراً، نقض بيت الشعر الذي استشهد به ابن خميس فخراً وصاغه بما هو أشنع! وقتها تمنيتُ لو أن ابن خميس بعث برده إلى صديقه عبر البريد.
ومن الرويس إلى يحيى المعلمي، الذي دخل معه ابن خميس في معركة حول الشعر النبطي، حينما ذكر المعلمي أن هذا الشعر مسخ وهجين وأنه يشكلُ خطراً على لغتنا العربية الفصحى! فرد ابن خميس أن "النبطي" ولد ونشأ في أحضان نجد، وليس لأبناء الأطراف أن يقولوا فيه رأياً! فرد المعلمي معتزا ومفاخراً بنسبه العلوي! وقتها تمنيتُ لو أن ابن خميس لزم الصمت ولم يدخل المعركة، فرأي المعلمي لن يؤثر في مسيرة الشعر النبطي. وفي رأيي إن ابن خميس كثيراً ما يخسر معاركه، وذلك لأنه يدخلها بجلباب الفرزدق وكبرياء جرير!
المعارك تتسع، ومساحة الزاوية تضيق، فهناك مادار بين الكاتب محمد رضا نصرالله والشاعر أحمد التويجري وبين الزميل علي العميم والدكتور عيد الجهني! وكثير كثير، غير أن أهم معركة- في رأيي- في تاريخنا الثقافي هي معركة "حتى لاتكون فتنة" بين الدكتور غازي القصيبي وعدد من رموز الصحوة، وتختلف عن غيرها بأن ميدانها لم يكن الصحافة، إنما الكاسيتات والكتب! وهذه المعركة – لوحدها- حقُها التوثيق والتدوين في كتاب مستقل، فهي شهادة مهمة في تاريخنا الثقافي، تُعرض أسبابها وبواعثها ومآلات فرسانها اليوم! كيف كانوا وكيف أصبحوا؟!