الضبابيةٌ بين القرض والتمويل أما آن لها أن تنجلي

[email protected]

تختلط مفاهيم "القرض والسلف والسلم والدين والمبادلة والبيع" مع مفهوم "الربا" عند غالب الناس وعلى رأسهم كثير من طلبة العلم، مما أدى إلى قصر إدراكهم وتصورهم للربا على أنه إعطاء لشيء مقابل استرداد مثل هذا الشيء مؤجلاً بزيادة. فأدخلوا في الربا ما ليس بربا وأخرجوا من الربا ما هو من صميم الربا.
ونحن نذكر إلى عهد قريب مسألة وقوع الطلاق بالثلاث في مجلس واحد والضبابية التي كانت تلفها عند كثير من طلبة العلم وذلك لاستقرار الفتوى على وقوع مثل هذا الطلاق لألف وثلاثمائة عام.
الضبابية في الفرق بين القرض والربا (ربا الديون وربا البيوع) لا تظهر عند البحث في كتب السلف ولا عند الراسخين من أهل العلم المعاصرين. إنما ظهر الخلط والإبهام بعد ظهور أوراقنا المالية المعاصرة وارتباطها بالذهب قديما (قبل عام 1971م) وأصبحت عماد أموال الناس واختلاف العلماء في قياسها على الذهب والفضة. فدخل البر والفاجر والمفكر وطالب العلم والمستغرب والمستعرب في جدال فكري ضاع فيه التأصيل فاختلطت الفروع بالمصالح المرسلة والوسائل بالغايات والاحتياط بالفتوى والسياسة الشرعية. فتحيرت الأفهام وتاهت السبل. ولو رُجع إلى كتب السلف والعلماء المعاصرين الراسخين في العلم واستنبطنا آراءهم ضمن المعطيات الحالية والتي حديثاً (وفي خلال زمن قصير جدا) تغيرت في جوهرها تغيرا مؤثرا في استنباط الأحكام، لاهتدينا إذاً لأضواء المدينة النبوية ولسرنا بأنوارها عبر المستجدات التي استجدت في النظام المالي الحديث.
إن الركام الذي اجتمع في أذهان الناس عن الفرق بين ربا الديون وربا البيوع قد يصعب إزالته في مقال مختصر ولكنه ليس بمستحيل إذا تجرد القارئ الكريم من الحكم المسبق وتأمل بموضوعية وعلم أنه من الواجب على المسلم إذا نهى عن أمر عرف حده، وما يدخل فيه وما لا يدخل، ثم اجتهد واستعان بربه في تركه، وإن هذا ينبغي مراعاته في جميع الأوامر الإلهية والنواهي.
ربا الديون وهو ربا القرض وهو عقد إحسان ورفق وتبرع ويدخل في جميع ما يصح بيعه بالأجل (فتدخل فيها المنافع) وأجمعت الأمة على تحريمه. وينقسم إلى نوعين، النوع الأول هو الزيادة في الأجل مقابل الزيادة في المقدار. كأن يبيع شخص لآخر سيارة بالتقسيط فإذا عجز عن السداد في الوقت المحدد زاد في السعر مقابل هذا التأخير في الزمن وهو ربا الجاهلية. وأما النوع الثاني فهو الزيادة المشروطة في أصل القرض كأن يقترض شخص من آخر منفعة كسكنى أسبوع مقابل أسبوعين بعد مدة أو استقراض جمل بجملين أو طابع بريد بطابعين إلى أجل أو ريال بدولار أو ريالين بأجل. لكن ماذا لو قويض الأسبوع بالأسبوعين مبادلة لا قرضا والجمل بالجملين بيعا وشراء والطابع بالطابعين أخذا وعطاء والريال بالدولار أو الريالين تمويلا دون قصد القرض الذي هو عقد إحسان ورفق وتبرع؟ فهذا يقودنا إلى ربا البيوع.
فربا البيوع يقع في عقود الصرف والمقايضة بين السلع والمبادلات التجارية بعضها ببعض. وهو ربا النسيئة أي ( الأجل أو الزمن) وأما ربا الفضل (الزيادة) فهو وسيلة إلى النسيئة لأنه لا يتخيل من عاقلين أن يتبادلا نفس الشيء تماما مع زيادة في أحدهما من غير أجل بينهما.
هذا الربا (ربا البيوع) لا يقع إلا في الأصناف الستة المنصوص عليها في الحديث، "الذهب، الفضة، البر، الشعير، التمر والملح"، أو ما يقاس عليها. إذن فالأسبوع بالأسبوعين مبادلة، والجمل بالجملين بيعا وشراءً، والطابع بالطابعين أخذا وعطاء لا بأس بها إن لم يكن هناك قصد القرض الذي هو عقد إحسان ورفق وتبرع لأنها لا تقاس على الأصناف الستة وبذلك أفتى علماؤنا رحمهم الله.
وأما الريال بالدولار أو بالريالين تمويلا وبيعا وشراء دون قصد القرض الذي هو عقد إحسان ورفق وتبرع فهذا الذي لم تتضح حقيقته الاقتصادية إلا في العقدين السابقين. فإن كانت الريالات والدولارات تقاس على الذهب، فالريال بالدولار أو الريالين تمويلا وبيعا وشراء هو نوع من الربا (ربا البيوع لا ربا الديون). وأما إن كانت الريالات والدولارات لا تقاس على الذهب، فحكم الريال بالدولار أو الريالين بأجل هو الجواز كالسلع الأخرى إذا كانت تمويلا وبيعا وشراء (والأوراق والسندات سلع حقيقية بذاتها وليست تمثيلا لغيرها كما نوقش سابقا، وهذا بين واضح بين لمن تخصص فيها).
وأذكر هنا على عجالة مواقف بعض العلماء ذوي القدم الراسخة في العلم في قياس الأوراق المالية على الذهب. فممن توفى منهم، رحمهم الله، الشيخ عبد الرحمن بن سعدي الذي رد هذا القياس ورفضه وأما الشيخ محمد بن إبراهيم فعبر عن ذلك بقوله هي نقد نسبي والاحتياط فيها أولى (وكانت آنذاك مربوطة بالذهب)، وتوقف عن هذا القياس كل من الشيخ عبد الله بن حميد والشيخ محمد الأمين الشنقيطي والشيخ عبد الرزاق عفيفي. (وانظر رحمك الله إلى هؤلاء! فمن القوم غيرهم؟) ورغم أن ذلك كان قبل انفكاك الارتباط بالذهب أو بعد الانفكاك وعدم إدراك تبعيات هذا الانفكاك في ذلك الوقت المتقدم. وما زال من الأحياء جمع متوقفون في هذا منهم الشيخ صالح اللحيدان والشيخ عبدالله بن غديان (إن ما زالوا على موقفهما) ومن الأحياء الذين ردوا هذا القياس الشيخ حسن أيوب والشيخ الدكتور محمد الأشقر الذي طالب بالنظر في السماح وجواز تبادل الريال بالدولار أو الريالين بالأجل تمويلا وبيعا وشراء ومنهم الشيخ الدكتور علي جمعة مفتي مصر الذي أفتى بجواز ودائع البنوك لأن الوضع النقدي تغير.
ويحب على في هذا الموقف أن أوضح على عجالة حيثيات فتوى الشيخين، الأشقر وعلي جمعة، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى مقالاتي السابقة. فالمشهور من المذاهب الخمسة أن الربا لا يجري في الأوراق النقدية، وشروط القياس التي اعتمدها المتأخرون في قياس الذهب على الأوراق المالية بجامع مطلق الثمنية لم تعد قائمة وهي أنها مقياس للقيم الآجلة ومستودع للثروة وأن هذا أصل فيها لا طارئ. وليرجع من شاء إلى أي من كتابات وبحوث الذين قاسوا الذهب على الأوراق المالية فسيجد الاستدلال على هذا القياس بأن الأوراق المالية هي مقياس للقيم الآجلة ومستودع للثروة وهذا ما لم يعد قائما بعد الانفكاك عن الذهب وعليه فيبطل هذا القياس لانتفاء شروطه، هذا القياس الذي وصفه الشيخ الأشقر بأنه قياس مهترئ وباطل. ومن المعلوم بالدين من الضرورة أن الفتوى تتغير بتغير المعطيات والوقائع.
وأختم بشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - حيث قال "إنه ليس كل ما اعتقد فقيه معين أنه حرام كان حراما. إنما الحرام ما ثبت تحريمه بالكتاب أو السنة أو الإجماع أو قياس مرجح لذلك. وما تنازع فيه العلماء رد إلى هذه الأصول. ومن الناس من يكون نشأ على مذهب إمام معين أو استفتى فقيها معيناً أو سمع حكاية عن بعض الشيوخ، فيريد أن يحمل الناس كلهم على ذلك، وهذا غلط" انتهى كلامه، رحمه الله.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي