الحذر من التضليل الإحصائي

الحذر من التضليل الإحصائي

ذكرت إحدى الصحف ما نصه: "وأكدت الدراسة أن 27 في المائة من طالبات مدارس المرحلة المتوسطة في مدينة جدة مدخنات، وأن 51 في المائة من المعلمات يدخن السجائر أو الشيشة، و تقل هذه النسبة عند طالبات الثانوية في مدارس جدة لتصل إلى 25 في المائة"، وفي خبر آخر حول مرض السكر "بعض الإحصاءات الحديثة أبرزت نسبة حدوثه لدى حوالي 30 في المائة من الشعب السعودي"، وحول مرض التوحد ذكرت إحدى الصحف "وجود أكثر من 100 ألف طفل توحدي في المملكة".
ما ورد أعلاه مقتطفات مما أوردته بعض وسائل الإعلام كمعلومات إحصائية حول بعض الظواهر وغيرها كثير، كالعنف الأسري، والبطالة، والطلاق، والإرهاب......إلخ. حيث تعد المعلومات الإحصائية في الوقت الحاضر أحد أهم الأدوات التي يستخدمها المهتمون بقضية ما للتأثير في المتلقي وحشد الآراء لتبني الأفكار التي يؤمنون بها حول هذه القضية. وهذا بلا شك أسلوب علمي متطور في الإقناع، يضع في الحسبان احترام فكر المتلقي بجعله الحَكَم على القضية مستعيناً بهذه الإحصاءات. إلا أن الخطورة تكمن في عدم مراعاة القواعد العلمية الصحيحة في إجراء الإحصائيات أو تفسيرها وعرضها، ما يؤدي إلى ما يسمى (بالتضليل الإحصائي)، الذي يُفقد المتلقي الثقة بالإحصائيات.
لقد كثر التساؤل حول مصداقية المعلومات الإحصائية التي تتناقلها وسائل الإعلام نظراً لعدم انسجام بعضها مع الواقع. فمن المعروف (فنياً) سهولة معالجة هذه البيانات وعرضها بطريقة تخدم هدف الباحث، مع أنها لا تمثل الواقع، ويلجأ بعض المهتمين بقضية ما إلى ذلك في محاولة لإبرازها كظاهرة من أجل توعية الرأي العام بها، إلا أن خطورة ظاهرة ما (كالتدخين مثلاً) لا يبرر إطلاقاً التخلي عن الأسلوب العلمي في الإحصاء من أجل تأكيد خطورتها، فهو فضلاً عن كونه يخالف الأخلاق العلمية، فإنه قد يقود إلى نتائج عكسية، فمن السهل إقناع فتاة الصف الثانوي بالتدخين استناداً إلى أن 35 في المائة من زميلاتها مدخنات. وقد تقود هذه المعلومة شركات التبغ إلى استهداف هذه الفئة بشكل أكبر عن طريق وسائل الدعاية المختلفة. وقد يؤدي ذلك إلى اعتبار الأهل والتربويين أن التدخين شيء طبيعي منتشر بين الطالبات؟!!
والملاحظ أن معظم هذه الأخبار المحتوية على معلومات إحصائية لا توضح منهجية الدراسة ولا أسلوب اختيار العينة، ما قد يدعو القارئ إلى القيام باختبارات إحصائية سريعة في بيئته تؤدي إلى شكوكه القوية في مثل هذه الإحصائيات، ولنأخذ مرض السكر مثالاً، فكون 30 في المائة من الشعب السعودي مصاباً بالسكر، يعني أنك لو سألت مجموعة من الأشخاص في محيط عملك مثلاً، ممن يتنوعون عرقياً وإقليمياً، عن عدد المصابين بمرض السكر في عوائلهم فإن من المفترض أن تحصل على نسبة قريبة من الثلث، وبتجربة بسيطة ستجد أن النتائج تقل كثيراً جداً عما هو منشور، والأمر ينطبق على التدخين أيضاً.
والقاعدة الذهبية في الحكم على مثل هذه المعلومات الإحصائية هي وجوب النظر بعين فاحصة لكل معلومة إحصائية تُقدم إلينا، ما لم تكن الدراسة منشورة في مجلة علمية مُحَكّمة، وذات درجة ممتازة في إجراءات تقييم البحوث. وهناك مسؤولية تقع على عاتق وسائل الإعلام، وذلك بالاستعانة بما يسمى بالمحرر العلمي الذي يتأكد من اتباع الباحث للمنهجية العلمية قبل نشر المعلومة، ما يعكس احترام وسائل الإعلام لقرائها أو مشاهديها، أو على الأقل استضافة باحثٍ متخصص للتعليق على مثل هذه الدراسات. ومن المستغرب صمت أساتذتنا المتخصصين والمهتمين بعلم الإحصاء وإحجامهم عن التعليق على هذه الدراسات. وسأخصص الجزء الثاني من هذا المقال للحديث عن كيفية حدوث الأخطاء الإحصائية التي تؤدي إلى التضليل.

- دكتوراه في المعلوماتية الحيوية وحوسبة الأحياء
[email protected]

الأكثر قراءة