حتى لا تصبح الوحدة النقدية ترفاً سياسياً
الوحدة النقدية لدول الخليج ليست ترفا سياسيا ولا موضة عصرية، بل هي تضحيات سياسية واقتصادية وتجميع للمخاطر لا توزيع لها فإن لم يكن هناك هدفا ساميا معلنا كان أو مبطنا ترجح مصلحته على المفسدة المحتملة من هذه الوحدة النقدية فالدخول في مثل هذه المغامرة ليس من الحكمة في شيء.
الوحدة النقدية الأوروبية لها أهدافها الظاهرة والخفية. فمن أهدافها الظاهرة محو الثارات، التي لم تمت، بين شعوبها وخلق جو من الوئام والصفاء لمنع إشعال فتيل نار الفتنة والحروب التي طحنت ديارهم لآلاف السنين. ومن أهداف الوحدة النقدية (نظرا لتنوع مصادر دخل هذه الدول وصناعاتها واختلافها) تسهيل وتشجيع التجارة بين بلدانهم وذلك بمحو المخاطرة والتكلفة التي أوجدها التذبذب الواسع بين أسعار صرف عملاتهم المحلية. ومن الأهداف الظاهرة تحويل الفوائض المالية من دولة إلى أخرى بدلا من سجنها في سجلات الاحتياطيات النقدية الأجنبية والتي هي في حقيقتها إتاوة أمريكية. ومنها إعادة مجد وعظمة إمبراطورية أوروبا الزائل وذلك بهيمنة عملتها (اليورو)، فعملة الدولة تحوي في مضمونها رموز القوة والسؤدد والكبرياء والفخر. وأما طعم المرارة والقهر الذي خلفته أمريكا بفرض الدولار على الحلفاء كعملة الاحتياط ومن ثم بنقض العهد ورفض استبدال الدولار بالذهب بعد أن كدست خزائن الأوروبيين بالسندات الأمريكية، فكان من أهم الأسباب التي جعلت الأوروبيين يعضون على نواجذهم وهم يضحون بسياداتهم الوطنية، السياسية منها والاقتصادية من أجل اليورو على أمل أن يحل محل الدولار الذي حل محل الذهب كعملة احتياط فتنتقل مناجم الذهب من البنك المركزي الأمريكي في واشنطن إلى البنك المركزي الأوروبي في فرانكفورت في ألمانيا.
تلك كانت بعض مبررات الوحدة النقدية الأوروبية فماذا عن الوحدة النقدية الخليجية؟ فشعوب دول الخليج إخوة متحابون دينهم وأصولهم واحدة لا ثارات ولا عداوات تاريخية يراد محوها بعملة موحدة. وعملات دول الخليج على اختلاف مسمياتها لا تذبذب بينها في أسعار صرفها فكأنها عملة واحدة. وصناعات دول الخليج وتجاراتها متشابهة، فهي تزدهر اقتصاديا معا وتنكمش معا فتتوافر الفوائض المالية لديها سويا وتضمحل سويا فلا يتحقق غرض توزيع الفوائض المالية بينها. وعلى عكس ما يقال، فالوحدة النقدية الخليجية في الواقع ترفع من مستوى المخاطرة للعملة الموحدة من وجوه عدة . فما الدافع إذا لتقديم التضحيات السياسية والاقتصادية من أجل الوحدة النقدية؟ الدافع الذي يظهر لي أن الإرادة السياسية في دول الخليج تريد أن تستبق الأحداث بدلا من اللحاق بها.
سر نجاح الأمريكيين هو الابتكار, فهم يقطفون ثمرته الناضجة الحلوة ومن ثم يقلدهم الأوروبيون ومن ثم بقية دول العالم يلقطون ما خلفه الأمريكيون لهم. الوحدة النقدية والنظام المالي الحديث أحد أمثلة الابتكارات الأمريكية. فهم من ابتكر بنكا مركزيا واحدا يضم تحت لوائه 12 بنكا مركزيا. وهم من صمم معاهدة برتن وود 1944 التي سحبت العالم تدريجيا إلى النظام المالي الحديث 1971 الذي غطى (ومازال) عجز أمريكا المالي لأكثر من أربعة عقود. هذا النظام الذي لم يكن لأحد أن يتخيله ولا في الأساطير، تريد أوروبا تقليده لتلقط ما خلفه الأمريكيون لها.
النظام المالي الدولي ستحدث فيه تغيرات جوهرية في القرن المقبل. فالمارد الصيني لن يقبل بخدمة الأمريكيين مجانا كما هي الحال الآن، و دول شرق آسيا وبلاد الهند ستنفض عنها التبعية للدولار. فماذا عن دول الخليج؟
لا أحد يستطيع التنبؤ بما سيكون عليه النظام المالي في القرن المقبل. لكن من المؤكد أن من يملك أصولا حقيقية هو الذي يمللك القدرة للتكيف مع أي نظام كان، كما أنه هو الذي سيكون الأقل تضررا من خسارة الأصول الوهمية (وغالبها سندات أمريكية) التي امتلأت بها خزائن البنوك المركزية العالمية تحت النظام المالي القائم. وهنا تكمن قوة دول الخليج ومسوغات الوحدة النقدية بينهما.
ما فتئ الغرب يمارس التقليل من شأن النفط والتزهيد فيه والترويج بنضوبه قريبا وبإيجاد البدائل عنه. وما زال النفط يخيب آمالهم ويرد أراجيفهم إلى نحورهم. إن القرن المقبل سيكون قرن النفط وعليه فيجب أن يستبدل النفط بأصول حقيقية لا سندات أمريكية ولا أوروبية، والوحدة النقدية لدول الخليج هي الطريق الموصل إلى ذلك.
إن إطلاق عملة خليجية موحدة بشرط تعويمها في السوق الدولية ومن ثم تسعير وبيع النفط بها يحقق مكاسب سياسية واقتصادية تستحق التضحيات والمخاطرة التي ستقدم عليها دول الخليج بتبني عملة موحدة. فالتعويم ومن ثم تسعير وبيع النفط بهذه العملة سيجعل منها عملة دولية تحتفظ بها البنوك المركزية و التجارية العالمية والمضاربون على حد سواء مما سينتج عنه دخل مضاعف (لمرة واحدة) من بيع النفط قد يصل إلى ريع سنة. هذا الدخل الإضافي الذي ستحتفظ به البنوك الأجنبية سيقابله احتياط نقدي أجنبي في بنكنا الخليجي المركزي ليسد ثغرات تقلبات أسعار النفط فنكون بذلك قد حصلنا مجانا على احتياطي نقدي أجنبي ولم نستهلك دخل النفط في شراء سندات أجنبية لتكدس في الاحتياطي النقدي الأجنبي من أجل إبعاد المضاربين عن العملة الخليجية. هذه الآلية مع تعويم العملة ستحقق الاستغلال الأمثل من الثروة النفطية حيث إنها ستحقق مرونة عالية لسياسات دول الخليج المالية وإمكانية تناسقها مع السياسات النقدية تماشيا مع أسعار النفط صعودا وهبوطا فتنشأ ديناميكية تعمل تلقائيا في كلا الفترتين. كما أن هذا السيناريو سيعطي دول الخليج قوة تفاوضية في إنقاص أو زيادة إنتاج النفط بهندسة سعر الصرف للعملة الخليجية بناء على حاجة دول الخليج للتدفقات المالية الأجنبية مع المحافظة على احتياطيات النفط الخليجية لأطول مدة ممكنة بدلا من هدرها بتدويرها عن طريق البترودولار لتطوير وسد عجز ميزانيات الدول الأخرى. وهناك بعد آخر، فكما فعلت دول أوروبا الشرقية، فإن وجود كيان مالي قوي ممثل في عملة دولية قوية ذو فوائض مالية تبحث عن أصول حقيقية سيدفع كثيرا من الشعوب الشقيقة للضغط على حكوماتها للتخلي عن الشغب السياسي ومحاولة الانضمام لهذه الوحدة التي ستكون دول الخليج هي المؤسسة التي لها امتيازات إدخال أو إبعاد أي عضو جديد.
هذا السيناريو البديع والحلم الوردي الجميل أظهرت الإرادة السياسية نوايا جادة ومخلصة لتحقيقه على أرض الواقع، ولكن من هو الاقتصادي المحنك النحرير الذي سيقود هذه العملية المعقدة المحفوفة بالصعوبات والمكائد والمعوقات من أرض الأحلام إلى أرض الواقع؟!
إن نجاح الوحدة النقدية الخليجية و تحقيقها أهدافها الاستراتيجية لا يتحقق بتقليد للاتحاد الأوروبي ولا الفيدرالي الأمريكي وذلك لاختلاف الأسباب الداعية لنشوء الوحدة النقدية الخليجية ولاختلاف القواعد التي يستمد منها الاتحاد الخليجي قوته وضمان استمراريته ولاختلاف الأهداف المرجوة لهذه الوحدة النقدية. وهذا يقودنا إلى أن استقلالية التفكير وإخلاص النية والعمق في التأصيل الاقتصادي والسياسي والابتكارية مع كونه من أبنائنا هي من أهم الصفات الواجب توافرها لمن سيقود عملية الاتحاد النقدي الخليجي من الناحية الاقتصادية. فالمستشار الأمريكي أو الأوروبي لن يقدم لهذه الوحدة النقدية إلا نظريات عامة كما فعل جرينسبان في منتدى جدة، أو نموذجا سابقا لكي يتم تقليده كما سيفعل روبورت مانديل، أو خلق معوقات يخذل بها المستشار الغربي الابتكارية التي ستؤدي إلى تحقيق الأهداف الاستراتيجية للوحدة النقدية.
منذ أشهر جمعني لقاء خاص بالدكتور الجاسر دام نحو ساعتين في مكتبه في الرياض. دار النقاش حول سياسات مؤسسة النقد من الربط بالدولار وعرض النقود وسعر الفائدة، وكنت قد سمعت عن الرجل سابقا ولكني لم أكن أدرك عمق الرجل وتضلعه في أصول علم النظام المالي العالمي الحديث. تحدث الجاسر فجمع ثم أوجز نظريات الاقتصاد المالي المعاصر المعقدة ثم أنزلها منازلها على ما يتناسب وما لا يتناسب مع اقتصادنا مظهرا الفروق بين اقتصادات العالم المختلفة مستدلا بالوقائع الاقتصادية التاريخية مدعمة بالمنطق، لا جمع بين متناقضين ولا تفريق بين متشابهين في حديث يتفق أوله مع آخره. ومن أراد أن يتعرض لبعض ما تعرضت له في ذلك اللقاء فليرجع إلى خطابه الذي ألقاه في منتديي جدة ودافوس. والجاسر غني عن شهادتي أو شهادة غيري فالرجل مشهود له، فالشهادة له تحصيل حاصل وأما الطعن فيه فهو شهادة بنقصان عقل الطاعن.
عندما تحققت الإرادة السياسية لفتح بلاد الروم قدم خالد بن الوليد أرض اليرموك فوجد فيها 11 جيشا للمسلمين على رأس كل جيش قائد، فاقترح ضم الجيوش والتناوب على القيادة على أن يتولى هو النوبة الأولى، فما أمسى الليل إلا وبلاد الروم بلاد إسلامية.
أستاذ الاقتصاد المالي في جامعة الأمير سلطان