تداعى الأكلة إلى قصعتها!!
يقول أبو بكر بن الطاهر زنيبر:"اللسان لكي يستمر حيا و ينمو وينتشر يجب أن تتوفر فيه شروط الصلاحية لكل عصر"! وهذا ـ بزعمي ـ ما يضمن تحقيق تضامن الكتابة بين كل مرحلة ومرحلة, لتكون لغة الخطاب في النهاية متصلة بواقعها مباشرةً, وبعرضٍ يستحق أن يمثل الشعر البعيد عن المصطلحات الوحشية! حيث لا يمكن أن يكون كلّ قديمٍ حديثًا في عصره؛ إلاّ إذا حقّقنا حسن الأسلوب, في تخيّر اللفظة مما يتعارفه الناس في استعمالهم، ويتداولونه في زمانهم.
لما كانت مرحلة الثمانينيات وشعراء الديوانية الواحدة, ظلّت النصوص التي تشترك في المضمون الواحد, هي ـ في الغالب ـ أساس الذائقة العامة, خرج أغلب ذلك الجيل ـ تحت مبدأ التأثير والتأثرـ بالشعر التقريري المكرّر. ومع توسّع أدوات التواصل, ظهر في المشهد الشعري أسماء, شكّلت تحولاً مختلفا من ناحية النهج والطرح, وإن كانوا غرباء في نظر من قبلهم, فهم على أقل وصفٍ ممكنٍ يحاكون زمنهم بلغةٍ تمثل جوهر ثقافتهم المعاصرة. لكن, ومع تبعات برامج الشعر الفضائية (النبات الذي خبث), التي أضحت بمنزلة التبشير لرواج الشعر المستهلك المكرور, الذي لا يقول شيئًا رغم كلّ المطولات المزخرفة بالمواويل الشجيّة, ذات الازدلاف والصوت الحسن, والاستجداءات المحزنة كمنظرِ أعرجٍ يتوكأ على أعرج. الأمر جدّ خطير, والضوء الذي يتمطى بصلبه, ويشرئب عنقه ويتطاول حدّ إسالة لعاب الرغبات, لدى بعض الشعراء الجميلين ـ وأخصّ جيل الشباب ـ؛ سيكون معول هدمٍ قاتلٍ لكل تجاربهم الناضجة والحقيقيّة, اللهمّ إلاّ أن تداركهم نظرةٌ من وعي متين ويقظةٍ تامّة!
لا أريد أن أصل بالقول: أن الظهور المرئي عملٌ سوف يحترق بناره كلّ من يقترب منه, بيد أن تقنين مسألة التواجد واختيار الأصلح هو ما يجب على شعراء المرحلة التنبه له؛ حتى لا يقع ـ واحدهم ـ في ضيق الموقف المحرج أو المبتذل, ثمّ لا يجد من خبرته ـ الناشئة ـ طريقًا إلى سرعة البديهة التي تستنقذه من حبسة الموقف المهيب!
من جهةٍ أخرى, وفي مسألة تفضيل الذائقة التي تختلف ـ طبيعيًا ـ وتتفاوت من شخصٍ إلى شخص, فلا يمكن فرض شاعرية عافت ـ مثلاً ـ على قارئ لا يرى إلا قضعان, ولا يمكن فرض قضعان على شاعرٍ لا يرى إلا عافت, فلكلٍ وجهةٌ هو مولّيها, هي في محصلتها تتبع ثقافته واطلاعه وقراءته. بيد أن ما يحدث الآن بعد حلقات شاعر المليون ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ أمرٌ مؤسف بحق, رؤية المنتديات الشعرية تفيض بطوفان هستيري؛ من أجل إثبات أن لا شاعر إلا فلان, ولا شعر إلا هوَ. مؤسفٌ بحقّ, أن تجد نوافذ الويب ـ في زمن الفضاء ـ تلوك عنصريةً حالقة مقيتة, تنتهي ـ تحت سلطة إدارة المنتدى ـ بإقفال الموضوع أمام انفتاح العقول! ولله ما أصدق أبا حيان التوحيديّ, حين قال: "الإنسان أشكل عليه الإنسان"!