لغة التهديد بين استقلال الإتقان الفني واستغلال المهايط الشعري!

لغة التهديد بين استقلال الإتقان الفني واستغلال المهايط الشعري!

الشعر خطاب العقل والروح، وأساليبه تختلف تبعا لشعور أو آخر، كما أن اتجاهات كثيرة يمكن لمسها داخل النص الشعري بحيث تعبر كل منها عن طريقة شاعر ما في التعامل مع إحساسه وهذا يرتبط مباشرة بالطبيعة النفسية التي تشكل ملامح القصيدة.
خطاب التهديد في الشعر يمثل جانبا ملحوظا ومكررا بشكل يجعله مشروعا لدراسة نقدية، وإن كانت نبرة التهديد قد خرجت على مر العصور من بعدها الإجرائي المجرد إلى أبعاد أخرى عاطفية ووجدانية ضمن السياق الفني للنص.
الملاحظ أن خطاب التهديد يمثل نقطة اختلاف فهناك من يرى أنه لا يتواءم مع نبل اللغة الشعرية، باستثناء بعض التهديدات التي تصاغ بإتقان أدبي فترسخ شخصية الشاعر ولا تضر بقصيدته.
هناك أيضا من ينتقد تحول التهديد إلى ظاهرة شعرية، كما يحدث أخيرا في الساحة الشعبية، حيث تم استخدامه كثيرا على سبيل "الهياط" الشعري بحثا عن الشحن الجماهيري ودون أي غرض فني أو أدبي.
فيما يلي نستعرض شيئا من تهديدات الشعراء ونترك لكم لمس كل منها بطريقته ولكم أن تتساءلوا في كل مرة.. هل يجوز للشاعر فعلا ما لا يجوز لغيره ؟؟.
يمكننا لمس نموذج بارز لتهديد الحبيب بطريقة غير معتادة، حيث لا يتعلق الأمر بالخيانة هذه المرة، بل إن الحبيب يواجه التهديد بإرغامه على الحب وتلقينه الرومانسية رغما عنه هكذا جاء مضمون النص الغنائي الذي كتبه سعود الشربتلي وغنته أحلام:

ناويلك على نيه بس أنت أصبر أشويه
إذا ما علقك فيني وهواك يصير بيديه
والله لاشغل أفكارك وأشعل بالهوى نارك
وأسكن قلبي بدارك وأعلمك الرومانسيه

حامد.. لا قرار لغضبه
بين نص حامد زيد ونبرة التهديد ارتباط فني وثيق يقوم على ذهنية الشموخ التي تسيطر على جميع حالات القصيدة لدى حامد وربما يعد هذا الشاعر الجميل من أكثر من استخدموا التهديد بخطاب صريح ومركز حتى تحول إلى ما يشبه السمة الملازمة دائما لقصيدة حامد زيد المكتظة دائما بحشود من الثقة والكبرياء ..

انا عيب علي انقض كلامي و الرجال افعال
واذا قلت اقطع حبالك تراني بقطع حبالك

تراه يمنطق الامور ويضع أرضيته الملائمة:

مثل ما اقبلت لعيونك لزوم تلدلي باقبال
و مثل ما قد حشمتك حس و احشم قلبي اشوالك
انا محد بجابرني اساير معك هالمنوال
ترى ماني تبيع لك و لاني اصغر عيالك

ثم ينطلق في تهديد لا قرار له إلا الرضا ولا نهاية له إلا الاستسلام لعاطفة لا تعرف أنصاف الحلول:

ببدل نظرتك فيني و اجي لك كل يوم بحال
باكون اقرب من ثيابك عليك ولا اتهيالك
بالمك و انثرك واجمعك وارجع انثرك باهمال
باخونك وازعلك وارضيك وازعل منك وارضى لك
ابرسم بالثرى وجهك و ابدفن صورتك برمال
ابشكي للعرب فرقاك و اضحك عند عذالك
ابهديك الوصال فراق و اهديك الفراق وصال
با سوي مثل ما اشوفك تسوي و افعل افعالك
عشان تعرف من فينا الزعول ومن وسيع البال
ابيك تذوق فنجالي وانا باذوق فنجالك
نصيحه واحتفظ فيها قصر معك الزمن او طال
ابي تسمع كلامي زين و تحطه على بالك
اذا حبك هبال اطفال لك عندي هبال اطفال
ولا وابشر بعد بهبال حب ما هو بهبالك
واذا قصدك تهين اسمي عشان تشمت العذال
ترى لا انت ولا غيرك ولا عشرة من اشكالك

القحطاني يتنازل عن الرومانسية
شاعر الأندلس ناصر القحطاني قابل كذلك أن يتنازل قليلا عن رومانسية الذاهبة وشموع طعم المسا ، فقط ليستخدم فخامة مفرداته ذاتها ضمن إطار التهديد لحبيب لم يكن يعلم على الأرجح أن استدراج شاعر رقيق إلى مساحة التهديد يشبه مغامرة غير مأمونة العواقب فالأمر هنا لا يختلف كثيرا عن قاعدة "احذروا غضب الحليم"

اخيرا جيت مثل الزوبعه لا جت بها الاقدار
فراقك عيد وجروحي مابي غيري يعايدها
انا ويّا الهوا سمن وعسل واليوم ملح ونار
لا عاد اسمع زغاريده ولا ابغى من يزغردها
حبيبي جايني بعد ايش.. بعد الذل.. بعد العار
فواتير الزمان اللي تخبره كنت اسددها
دخيلك لا تزيد الطين بلّه يكفي اللي صار
تراها واصله وان طعت شوري لا تزودها
ما دامك لا انت في بالي ولا انت بمن حمام الدار
انا ليه انتخي واقوم الدنيا واقعدها
ما احبك واركب اعلى ما بخيلك وان طرا لك ثار
دفعتك في مهب الريح لين تروح في يدها
زمان بعود كبريت اتّوعّد.. والزمان اندار
وجيت بغصن زيتون ومواويل ٍ ترددها
اذا اعذارك تجمّل قولها.. تدري.. بلاش اعذار
بلاش الحجه من الباب للطاقه تورّدها
فضحت العشق.. يخرب بيت عشق ٍ ما وراه اسرار
بعد ما كنت اسولف له عن احلامي وسيدها
يا شيخ استح على دمّك ترى دم الكرامه فار
كشفت المستخبي والوعود اللي تسرمدها
غرام آخر زمن ليت الغرام آخر زمن ما صار
وعبرات الندم "دقه قديمه" روح جددها

الملتاع.. قمة الاشتعال
الشاعر الآخر المملوء حلما ورقة ، المشتاق والمضني بالفراق ، الملتاع والمحروم حتى من العذاب، الراحل طلال الرشيد، كان في قمة اشتعاله في قصيدته الشهيرة "ما يكبرني لقب" حيث الشعر يحتدم بقدرة هائلة على هز فرائص المعنى ، ومحاصرة القراءة على أعصابها في زاوية من التوجس

يا صغيّر ما يكبرني لقب
وما يصغرني إذا انكرني صغير
عند حدك يا كثير الهرج تب
لا تمر النار وثيابك حرير
كان لك عز بذلي فتعقب
والله ألا تبطي وحبلك قصير

وغير بعيد عنه يطل علينا طلال آخر بنظرة مغايرة دست سم التهديد بأناقة في عسل الفخر وانتقاد غدر الحبيب، وهنا يتجسد الأسلوب الرشيق لطلال الرشيد العطيب في محورة قصائده دائما حول فكرة الاعتزاز بصدق الإحساس والقدرة باستمرار على تجاهل مشاعر لا تستحق التعب، وبالتالي فالعطيب يهدد دون أن يفقد عاطفيته وهنا يأتي التهديد مضمرا وأقل حدة رغم أنه مؤثر وحاسم:
ياهوه وقف وين عقلك موديك
مهوب انا ألي اقبل اكون عادي
لاتحسبني يوم تقفي بناديك
انا الذي لاقفيت لازم تنادي
إلى متى قلي بااسكت واداريك
وانت عديم احساس تايه وغادي
لاصرت عايف ليه اهدي واهديك
مهوب حبيبي من يدور عنادي
ماني بكيفك يوم تطفش اسليك
انا تراي احساس ماني جمادي

زودت في كبر الخطايا تماديك
ماعادني صابر على هالتمادي
وحده بوحده مثل ما آخذ اعطيك
وأنت ترى المخطي ومن كان بادي
يوم يجيبك يوم عقلك يوديك
لا ابيض ولا اسود لون طبعك رمادي

عافت.. أبلغ الوعيد
لا يمكننا إنهاء قراءتنا حتماً دون التوقف عند قصيدة فهد عافت الشهيرة "من تكونين" التي تعد أحد أبلغ ما توعد به حبيب حبيبة خائنة، فالتهديد هنا لا ينفصل كذلك عن مفهوم شعري وعاطفي عميق يحول الحبيبة ملاكا وقصيدة خالدة، وبالتالي فالمفهوم ذاته يحتفظ لنفسه بحق أن يحرم الحبيبة من الحب الذي يرى عافت أنه صنع قيمتها، حيث لا قيمة لها من بعده:

أنا.. أنا.. لولاي انا من تكونين
اقولها وانا نعم.. فيك مغرور
انا جعلتك نور وانتي من الطين
جرة قلم وامحيك من عالم النور
انتى بدونى وردة فى البساتين
والورد فى دنيا البساتين مغمور
لكن معى صرتى كما الشوف للعين
والعين لولا الشوف ما ظن لها دور
هذا وقصدي تعرفى موقعك زين
وحذرا ترى من أنذرك صار معذور
أما اشتري ودي على العسر واللين
والا تراني بايعك بيعة البور
بسطور.. خليتك شعار المحبين
وامسحك من دنيا المحبين بسطور

الأكثر قراءة