ابن لعبون متنبي الشعر المحكي

ابن لعبون متنبي الشعر المحكي

ابن لعبون لقب وليس اسما كما يداوله البعض اكتسبه عن جده وهذا اللقب حسب ما ذكرته بعض المصادر، أن بندقية كان يحملها ابن عمه حمد بن حسين فانطلقت منها طلقة عن طريق الخطأ فأصابت جده في إحدى شفتيه، ثم برأ الجرح ولكنه خلف عاهة مستديمة فكان يسيل منه اللعاب فسمي ابن لعبون ، أما عن اسمه الحقيقي فهو محمد بن حمد بن محمد بن ناصر بن عثمان بن ناصر بن حمد بن إبراهيم بن حسين بن مدلج بن حسين من بني وهب من الحسنة من عنزة ، ولد في بلدة حرمة إحدى بلدات سدير في عام 1205هـ ثم ارتحل مع أبيه وعمه من بلدة حرمة إلى بلدة ثادق إحدى بلدات المحمل ونشأ بها إلى أن أكمل سبعة عشر عاما ، كان من أميز أبناء جيله ثقافة وكان حافظا للقرآن متقنا للخط متذوقا للشعر العربي الفصيح وشعره شاهد على انه ملم بالمعلقات وبشعر المتنبي والمعري، و لغته الشعرية دليل على أنه قارئ للشعر العربي الفصيح وكذلك مطالع قصائده التي يذكر الأطلال وفراق الحبيب، كان ولعه بالشعر والأدب منذ كان صغيراً فقد أبدع في الشعر النبطي وسمي بأمير شعراء النبط وأصبح زعيم هذا الاتجاه، حيث استطاع أن يستهوي في شعره جميع الأذواق من أهل نجد والعراق وأهل الكويت والساحل فكون قاعدة جماهيرية كبيرة من عشاق الشعر المحكي في ذاك الوقت وأصبح ذائع الصيت في تلك الأقطار من البلاد، قيل عن سبب رحيله من ثادق إلى الزبير أن ابن لعبون نشأ في عصر اشتداد الدعوة الدينية بعد قيام الشيخ محمد بن عبد الوهاب وكان في طبعه ميالا إلى اللهو والشعر الغزلي فلم توافقه تلك البيئة وصادق على ذلك الدكتور عبد العزيز بن عبد الله بن لعبون في قوله في يوم خروجه من ثادق أشرت عليه امرأة وقالت : هذا أبو قذيله اللي يقصد، فقال فأنشد فيها بيتين الزمها بهما الصمت، ارتحل إلى الزبير ووجد مجالا للهو فانغمس فيه وأبدع في الشعر الغزلي ، ظهر في شعره الغزلي أكثر من واحدة، لكن عشقه كان مقصورا على مي وهو اسم رمزي لمحبوبته ،فاخترت هذه الأبيات من قصيد ته التي قالها يتذكر حبيبته ويبكي على أطلال سكناها حيث قال:
يا منازل مي في ذيك الحزوم
قبلة الفيحا وشرق عن سنام
في سراب عن جوانبها يحوم
طافحات مثل خبز في يدام
يستبين بها الخبير بها الرسوم
دارسات كنهن دق الوشام
من هموم في قلوب في جسوم
في بيوت في ديار في عدام
غيرت فيها تصاريف النجوم
وأبدلت فيها بعين ما تنام
عوضت عنها الضعاين بالهدوم
وانتحاب البوم عن سجع الحمام
وقال يشرح معاناته في منفاه ويذكر منازل حبيبته مي في قصيدة جميلة تطرب السامع نظمها شاعرنا بحس جميل يفوق الخيال، فتنقل فيها من الشكوى والمعاناة في المنفى وعن سوء المعاملة وكيف تحولت حياته من حياة الترف إلى حياة البؤس والشقاء وقلة الحلية، ثم تذكر منازل حبيبته وكيف كانت متسعة وأخذ يصفها وصفا تصويريا يولد لدى القارئ إحساسا يجسد المكان في ذهنه، ثم انتقل إلى وصف محبو بته في انسياب تسلسلي للفكرة الشعرية قادته لوصف أدق تفاصيل محبو يته فاخترت لكم هذه الأبيات من القصيدة :
له يا هل العيرات عن دار التلاف
من عفا الله عنه يردف رديف
عن ديار كل ما فيها يعاف
ياركب ويلاه من سيف كسيف
جيت ناس عقب أهل مي نشاف
يطبخون الزاد بالماي النظيف
من عقب زل الزوالي واللحاف
والمخده جوخ حطوا لي سفيف
شف منازل مي في ذيك الحضاف
يا حراش إن كان يحتاج تعريف
ذا مصب الماء وهذاك الرفاف
والحرم هذا وهذاك المضاف
لي وليف كل هرجه بالخلاف
العجب لله دره من وليف
ينكشف لي عن ثناياه الرهاف
من رفيف البرق برق له رفيف
يا لطيف من حكاياه اللطاف
سمني لعيونها عبد اللطيف
كن وصف جعودها فوق الرداف
الهوا والماء من فوق الغريف

استقر في الزبير في العراق قرابة اثنين وعشرين عاما إلى أن نفي منها وحادثة إخراجه من الزبير لأسباب على ما يبدو أنها بسبب اللهو والغزل إلا أنه تحول إلى عداء بين ابن لعبون وابن زهير وهنا صب ابن لعبون جام غضبه على ابن زهير والمجتمع من أهل الزبير ومن وشى به لدى حكام الزبير في العراق ، فقال في ذلك قصيدته التي خاطب بها ابن ربيعة:

ذا حس طار أو ضميرك خفوقه
يدق به من نازح الفكر دقاق
الحي هو حيك وطابت وفوقه
والدار هي دارك وهذيك الأسواق
يا عبيد خل اللي تشكل بسوقه
شيخ وهو عبد يذكر بالأعماق

تمكن الشاعر ابن لعبون وتعمق في المعاني فنظم ما سماها الشعراء (المهملات) وهي القصائد التي تكون من دون نقاط فنظم القصيدة التالية من دون أي نقطة، وهذا يدل على تمكنه في مقدرته الشعرية وصبها في صيغة شعرية لإبداء مهارته الفنية نختار منها الأبيات التالية:

احمد المحمود ما دمع همل
أو عدد ما حال وادٍ له وسال
أو عدد ما ورْد ورّاد الدحل
أو رمى دلوه وما صدّر ومال
أو حدا حاد لسلمى أو رحل
سار هاك الدار أو داس المحال
أحمده دوم على حلو العمل
سامع الدعوى ومعط للسوال
ما على راك لعا وأعلى ومال
حاول الطاعة على ما صار حال
ما حلا لولا صدور له وهل
لو ورد ما عدها الما له أطال
مارد حاله على حال الوحل
طالما حسّه لروحه لا محال

كما وصل به التمكن لدرجة أنه كان يملي كاتبين في وقت واحد كل واحد منهم يكتب قصيدة منفصلة وإذا جمعت القصيدتين أصبحتا قصيدة واحدة كقوله:
مالون يا قلبي دوى/ به جراحي
بهداك لي ما ترعوي/ شور نصاح
يا قلب لو صاح الهوى/ لك وتاحي
بالك تطيعه يا الغوي/ وين ماراح
كب السفاه وما حوى/ من مزاحي
ضامي ضعونه ترتوي/ دمع سفاح
يا صاح لو بعد النوى/ والمشاحي
يا عاذلي بالمنتوى/ كان ينساح
مازال يومن ما التوى/ له جناحي
راعي الفراق وينزوي/ كلما صاح

ومن القصائد التي اختلفت الرواة حولها وحول مناسبتها وهي تعد من أجمل قصائد ابن لعبون، لم يزل يذكر مي فيها ويقحمها في موضوع القصيدة بشكل احترافي جميل بحيث يستسيغها القارئ وهي التي تغنى بها الفنان سلامة العبد الله رحمه الله:

يا علي صحت بالصوت الرفيع
يا مره لا تذبين القناع
يا علي عندكم صفراً صنيع
سنها يا علي وقم الرباع
نشتري يا علي كانك تبيع
با لعمر مير ما ظني تباع
شاقني يا علي قمرا وربيع
يوم أنا آمر وكل أمري مطاع
يوم أهلنا وأهل مي ٍ جميع
نازلين ٍ على جال الرفاع

ونظم أيضا قصائد جميلة منها القصيدة التي كتبها حينما سمع صوت الحمام فذكره بحبيبته وعلى عصر مضى وعلى لوم أهله في حبه لها، ثم مضى إلى ذكر الفراق الذي لا يريد ذكره، تربع على عرش الشعر المحكي بهذه القصيدة الفريدة من نوعها وألحانها، حيث قام يصف الحلي التي تلبسها حبيبته ووقت شرائها في تناغم يعزز فيه فكرة القصيدة وموضوعها وبعد أن فرغ من ذلك انتقل إلى وصف المحبوبة فشبهها بالبدر في منتصف الليل وهو تشيبه جرى عليه معظم شعراء اليوم، إلا أن ابن لعبون يعتبر من الأوائل المبدعين في هذا التشبيه اخترت لكم هذه الأبيات حيث قال:

يا ذا الحمام اللي سجع بلحون
وشبك على عيني تبكيها
ذكرتني عصر مضى وفنون
قبلك دروب الغي ناسيها
أهلى يلوموني ولا يدرون
والنار تحرق رجل واطيها
لا تطري الفرقى على المحزون
ما أدانى الفرقى وطاريها
أربع بناجر فى يد المجمول
توه ضحي العيد شاريها
أنا اشهد انه كامل و مزيون
مثل البدر سنا الليل شارع فيها
يا من يباصرني انا مفتون
الروح فيها الذي فيها

وبعد أن نفي من الزبير رحل إلى الكويت وعاش فيها قرابة عامين إلى أن توفاه الله في الكويت عام 1247هـ بوباء الطاعون الذي اجتاح العراق والكويت في ذلك الوقت رحمه الله , وهلك فيه أناس كثيرون وخلت من أهلها المنازل وبقي الناس في بيوتهم صرعى لم يدفنوا وحسب المصادر اجتاح الطاعون العراق والكويت وكان عمره 42 سنة ومن بعض ما قال ابن لعبون حينما أحس بقرب نهايته أعلن توبته بأبيات منها :
كل شيء غير ربك والعمل
لو تزخرف لك مردّه للزوال
استغفر الله عن كثر الزلل
واستعين عنايته في كل حال

الأكثر قراءة