لم يُحرم السعودي من الخبرة والمعرفة؟

[email protected]

شباب الخليج في الإمارات الصغيرة المجاورة غمسوا أنفسهم في توافه الأمور وفي جمع الأموال كماً دون كيفا وحرموا أنفسهم من اكتساب المعرفة من الأجنبي، وأما شبابنا فقد حرمتهم أنانية بعض المسؤولين بحرصهم على تحقيق نجاحات ذاتية سريعة لأنفسهم بدلا من تمكين ابن الوطن من اكتساب الخبرة والمعرفة والدراية من وجود الأجنبي في بلادنا.
 فمثلا، جهة حكومية في بلادنا تتعاقد مع شركة أجنبية بمبالغ طائلة لتأسيس مركز بحثي إحصائي مهمته قياس مؤشرات واتجاهات قطاع ما من أجل تحسين أداء القطاع وتطويره. هذا النوع من المهام يتصف بالعمل الفكري الحيوي الذي تحتاج بلادنا إلى أن يتوافر في أبنائها بشكل دائم ومستمر. التسلسل المنطقي للفكر الوطني المخلص يتصور أن هذه الشركة ستوظف من أبنائنا من يعمل في هذه الشركة منذ البداية لكي يتعلموا فنون هذا العلم, ومن ثم يتأهلون لتسلم مثل هذه المهام في المستقبل. وهذا تصور صحيح ومنطقي، فعليه فقد وضع شرطا (لذر الرماد في العيون) بأن عمل الشركة سيكون مدته ثلاث سنوات. السنة الأولى تأسيسية والثانية إشرافية والثالثة رقابية ومن ثم تغادر الشركة ليتسلم أبناؤنا المهام, فماذا فعلت الشركة لتحقيق الهدف. الشركة، ومن خلال مكتبها في أمريكا، وظفت خريجين جامعيين جددا من شتى أنحاء العالم ما عدا السعوديين. مهمة هؤلاء الخريجين الجدد هو التعلم فينا واكتساب الخبرات والاستفادة من أخطائهم على حسابنا. حتى إذا انقضت السنوات الثلاث تعذرت الشركة بعدم توافر الكوادر الوطنية المؤهلة للقيام بمثل هذه الأعمال, فإما أن يُجدد العقد ويصبح هؤلاء الشباب الشقر ذوو العيون الزرقاء التي لم تكن لهم خبرة ولا معرفة حين أتوا إلى بلادنا هم الخبراء الجدد, أو سيتم تسليم المهام إلى من لا يحسن أداءها من أبناء الوطن فتتأكد عقدة الأجنبي في نفوسنا.
قصة هذه الشركة ليست حالة نادرة في بلادنا بل هي رواية تتكرر كثيرا في معظم التعاقدات مع الشركات الأجنبية التي تعمل على أرض الوطن.
كم من المشاريع الصغيرة والكبيرة والعملاقة التي تحتوي على قسم كبير من العمل والجهد الفكري يُستبعد ابن الوطن من تعلم تفاصيلها وأسرارها أنانية واستهتارا, من المسؤول عنها ويُكتفى بنصب بوق وطني يتلوا مزهوا ما يُملى عليه من إنجازات لم يكن له فيها يد ولا جهد ولا دراية ولا معرفة ولا يدرك منها إلا الخطوط العريضة التي تكتب عناوين للإنجازات.
كم بنينا من مطارات, وكم أنشأنا من مصانع, وكم شيدنا من موانئ فهل حققنا أي استقلالية ذاتية؟ أنا لا أعني هنا المهن البسيطة المتوافرة بكثرة في العالم الثالث والتي يدندن بعض المسؤولين حولها لترسيخ فكرة استحالة الاستقلالية الذاتية. بريطانيا سخرت جيوشا من الهنود ومن غيرهم ولكن لم تستخدم قادة وضباطا منهم بل اقتصرت في ذلك على أبنائها من البريطانيين يتعلمون فنون القيادة العسكرية على حساب دماء هؤلاء الهنود. المقصود بالاستقلالية الذاتية هنا هو اكتساب المعرفة العلمية الإدارية والرقابية والإشرافية والتقنية والتنفيذية, التي لا تتأتى إلا بالخبرة والممارسة.
 العذر فيما مضى مقبول، فلم يكن هناك وعي في تلك الفترة المتقدمة ولم تكن هناك عقول سعودية كافية لمواكبة المشاريع التي خلت وانتهت، أما الآن فلا عذر وشبابنا يجول في الشوارع بشهادات أكاديمية بحثا عمن يفتح الباب له دون اشتراط سنوات من الخبرة.
دعوة الشركات الأجنبية والخبراء الأجانب إلى بلادنا والتنافس على ذلك أمر مطلوب ومحمود ليس فقط لإنجاز المشاريع، فإنجاز المشاريع تحصيل حاصل يجب ألا يقصد لذاته بل يجب أن يكون الهدف الاستراتيجي من جلب الشركات الأجنبية هو اكتساب الخبرة والمعرفة منها, وما "أرامكو" إلا شاهد يُكذب المتعاجزين المحبِطين المحبَطين.
شروط الحصول على المناقصات الحكومية لم تترك شاردة ولا واردة ولا أمرا تافها ولا حقيرا، صوريا كان أو حقيقيا إلا وتضمنته, فلم لا تتضمن شرط تعيين شاب سعودي يحمل الشهادة العلمية المناسبة فيلازم الأجنبي ذا الخبرة ويعمل معه طيلة مدة المشروع على أن يكون ذلك مقابل مخصص مالي محترم مقطوع يدفع للشاب السعودي لكي يحرص على التعلم واكتساب الخبرة والمعرفة؟
الالتفاف على القوانين والاستثناءات كفيلة بأن تحبط أي تشريع طموح يفرض تعيين شبابنا إلى جانب الخبراء الأجانب لاكتساب الخبرة والمعرفة منهم, إلا أن تشكل هيئة وطنية يقودها مخلصون, جد مخلصون, مهمتهم مراقبة المشاريع الحكومية وتعيين من تتناسب شهادته من أبنائنا ليلازم ويعمل مع قرينه الأجنبي في المشاريع المقبلة على البلاد ويطبق ذلك على القطاع الخاص, فلا تمنح فيزا لخبير أجنبي إلا وعقد لشاب سعودي يلازمه براتب مجز قد تم توقيعه.
ولنقف وقفة صدق مع أنفسنا، فإذا استثنينا المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع من الأجانب ذوي العيون الزرقاء الموجودين عندنا في بلادنا فسنجد أن الأجنبي الكفؤ الماهر لن يأتي إلى العمل في بلادنا إلا أن يكون ضمن بعثة حكومة أجنبية وعنده أجندة أخرى للقيام بها, أو أن يكون قد أكل الدهر عليه وشرب لا أهل ولا عمل ولا مستقبل له في بلده، قد توقف الإبداع والتجديد في نمط تفكيره وإداراته. وفوق كل ذلك فلن يترك الأجنبي الكفؤ بلاده إلا أن نتنازل له عن ديننا وكرامتنا فننزع ثوبنا ونلبس ثوبه أولا ثم يُتبع ذلك بخضوع له فنضعه في مرتبة سامية رفيعة لا يرتقي لها أبناء الوطن. هذا كله إلى جانب تقديم مبالغ ضخمة له لإرضاء غروره وكبريائه.
المشاريع الطموحة القادمة تحوي بين جنباتها أعظم الجامعات وأرقى وأعلى مستويات تحصيل الخبرة والمعرفة والتي لا تُقدر قيمتها لا بالريال ولا بالدولار فيجب ألا تُترك منفعتها للأجنبي، ويجب أن تخطط بكيفية تؤهل شبابنا للاستفادة منها لكي نبني وطنا أسطوريا حقيقيا قائما بذاته لا بغيره، ولكي نستطيع مواجهة المخاطر المستقبلية المحتملة من إمارات أندلس القرن الحادي والعشرين.
لو أن "أرامكو" لم تجعل من اكتساب السعوديين خبرة الأجانب هدفا استراتيجيا لها لكنا الآن تحت رحمة الأجنبي يتحكم في سياساتنا النفطية ويضيق الخناق على رقابنا في أي مفاوضات استراتيجية داخلية كانت أو خارجية. أين العقلاء المخلصون الذين كانوا خلف سعودة "أرامكو" في ذلك الوقت المتقدم؟ أيعقل أن يتحقق فيهم قول الفاروق "عجزت النساء أن يلدن مثل خالد".
إن اكتساب الخبرة والمعرفة السعودية الوطنية هو الاستثمار الحقيقي من المشاريع المقبلة وهو روحها وضمان نجاحها واستمراريتها لا مباني زخرفية, إما أن يحكمها الأجنبي أو تعود أطلالا بعد هجرانه لها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي