توحيد سلم الرواتب الجديد للقطاعات الصحية .. هل من سلبيات المراقبة العامة (3)؟
امتدادا للحلقتين السابقتين بشأن ما طالعتنا به بعض الصحف من إقرار المجلس الاقتصادي الأعلى توحيد سلم الرواتب في المستشفيات الحكومية العامة والتخصصية في جميع القطاعات الصحية المتعددة، القرار أشار إلى توصيات اللجنة المشكلة بدراسة توحيد سلم الرواتب في المستشفيات الحكومية والتخصصية ومراجعة اللائحة الصحية وسلم رواتب السعوديين الخاضعين لسلم رواتب أعضاء هيئة التدريس في الجامعات بما يتناسب مع منافسة السوق مع ممثلين من مجلس الخدمات الصحية. وأقرت اللجنة تطبيق شاغلي الوظائف الصحية للسعوديين, صرف البدلات التالية: بدل "ندرة" للتخصصات النادرة لا يزيد على 30 في المائة من راتب الدرجة الأولى من المستوى الذي يشغله الموظف وفق ضوابط.
ماذا نقصد بالتخصصات النادرة؟ ومن يحدد مفهوم الندرة؟ وهل مشكلتنا الصحية, خصوصا في مستشفيات وزارة الصحة أن هناك نقصا في أصحاب التخصصات النادرة بينما التخصصات غير النادرة فيها وفرة من الكادر الطبي؟ وهل مستشفيات وزارة الصحة مستشفيات تخصصية بحيث تحتاج إلى أصحاب التخصصات النادرة, أم أن غالب مستشفياتها عامة تتطلب تخصصات عامة لكنها غير مستغلة طبيا؟
للإجابة عن التساؤلات السابقة أرى أن المواطن والمريض هما من يحدد التخصصات النادرة, فأكثر التخصصات التي يحتاج إليها المرضى أو المجتمع هي التخصصات النادرة, وأن يتم استبدال مصطلح الندرة بمصطلح الاحتياج. فهناك تخصصات ليست نادرة بالمعني العلمي لكنها تخصصات نحتاج إليها وفيها نقص كبير كتخصص طب الأسرة والمجتمع وتخصص التخدير. فنظرة المجتمع واحتياجه هما ما يحددان المميزات ولا ينبغي تغليب نظرة إرضاء غرور بعض الأطباء للبحث عن تخصصات محددة جدا لا تلبي إلا احتياج شريحة محددة جدا. فكلما زاد التخصص دقة استفادت منه أعداد محدودة. ونحن نعاني عدم توافر الرعاية الأولية للأمراض الشائعة التي لم يتوافر لها كادر صحي مؤهل.
فمراكز الرعاية الأولية تحتاج إلى أعداد كبيرة لتغطية النقص الكبير في أطبائها المتخصصين في طب الأسرة والمجتمع. فوزارة الصحة عليها الاستفادة من تجربة وزارة التربية والتعليم حينما أعطت بدلا لمعلمي التربية الخاصة من أجل ترغيب المدرسين في الالتحاق بهذا التخصص, وليس بسبب صعوبة التخصص من الناحية الأكاديمية. فتخصص الرياضيات والمواد العلمية أكثر صعوبة دراسيا من تخصص التربية الخاصة.
فحاجة المجتمع إلى تخصص الأسرة والمجتمع تتطلب الترغيب فيه, خصوصا من أجل تفعيل دور مراكز الرعاية الأولية. كما أن تخصص طب الأسرة والمجتمع أقل من غيره من التخصصات جذبا للقطاع الصحي الخاص.
كما أن الاستثمار الأمثل في تأهيل متخصصين في طب الأسرة والمجتمع سيساعد على الحد من ارتفاع التكلفة العلاجية, خصوصا أن المريض سيتم التعامل مع وضعه الصحي في المراحل الأولى قبل تفاقم الحالة الصحية.
بناء على القاعدة السابق ذكرها بأن يتم استبدال الندرة بالاحتياج, الإحصاءات تؤكد هذا التوجه, فوفق إحدى الإحصائيات فإن نسبة السكري في السعودية بين أعمار 30 و70 سنة وصلت إلى 23 في المائة. كما أن هناك 15 في المائة لديهم القابلية لأن يصبح لديهم مرض السكري خلال سنة أو سنتين, أما بالنسبة إلى ارتفاع الضغط فقد بلغت حدود 25 في المائة. لعل مرضي الضغط والسكري من الهموم الصحية التي تعانيها الأسر السعودية لكننا لا نجد أننا ندفع تخصصات أطبائنا لمعالجة هذه المشكلة الصحية المزمنة.
مستوى الخدمة العلاجية المقدمة عبر مستشفيات وزارة الصحة اهتزت لأسباب كثيرة، لعل الوزارة تبدأ بتحديد الاحتياجات الصحية بما تحتاج إليه الأسرة السعودية والعائلة بما فيها الطفل, خصوصا أنها الأكثر طلبا للخدمات العلاجية.
المرحلة الحالية تتطلب من وزارة الصحة توجيه التخصصات الطبية وأطباء المستقبل عبر وضع مميزات خاصة للتخصصات الأكثر احتياجا وليس النادرة. فأصبح حصول المواطن على الخدمات الصحية الأساسية أشد عسرا بسبب عدم توافرها في المستشفيات العامة. لذا فوزارة الصحة عليها التركيز "كأولوية" على توفير الخدمات الصحية العامة وأن تقلل اهتمامها برعاية التخصصات للمستشفيات التخصصية المعروفة. فليس من المنطق ألا تتوافر الرعاية الأولية والعامة للمواطنين وتصرف الميزانيات على قضايا تخصصية ليست أولوية للوزارة, خصوصا أن مستشفيات وزارة الصحة يتوقع منها أن تغطي الشريحة الأكبر لطالبي الخدمات العلاجية. فدراسة اقتصاديات الصحة تخبرنا أن من 75 إلى 80 في المائة من طالبي خدمات الرعاية لصحية يتطلبون رعاية صحية عامة ولا تكلف أكثر من 20 في المائة ـ 30 في المائة من الميزانيات الصحية. بينما تصرف 70 إلى 80 في المائة من الميزانية على الرعاية التخصصية التي يستفاد منها 20 إلى 30 في المائة من المواطنين.
لا شك أن التخصصات الدقيقة وتقديم خدمة تخصصية أكثر جاذبية للعاملين في القطاع الصحي من التخصصات العامة, لكن يجب ألا يكون ذلك على حساب الدور الأساسي لوزارة الصحة بتقديم رعاية صحية عامة. فزيادة التخصصات الأكثر احتياجا تتم عبر زيادة المميزات المالية للتخصصات الأكثر احتياجا, وليس النادرة لتغطية النقص في مستشفياتها ومراكز الرعاية الأولية.
الانفصام بين احتياجات المجتمع الصحية ومصروفاتنا الصحية هو المرض العضال الذي تعانيه مستشفيات وزارة الصحة. ولعل وضع مميزات مالية للتخصصات الأكثر حاجة, وليس النادرة, هو المدخل المناسب لتصحيح خدماتنا الصحية.