عندما يبني الأجنبي وطنا لنفسه لا لغيره
تُخدر الأحلام الوردية بعض البسطاء قصيري النظر فيتراءى لهم مستقبل زاهر لأبنائهم وأحفادهم قي ظل حضارة يبنيها الأجنبي لهم. فمن أجل ذلك يُستجلب الأجنبي وتقدم له الريادة تسهيلا لعمله وترغيبا له في البقاء تطلعا في شوق إلى تحقيق رؤى المستقبل الزاهر. وما أن يستولى الأجنبي على مقاليد الأمور بحجة علمه ومعرفته بإدارة الأمور حتى يمسي وقد أصبح يطالب بالعدالة، فلا يُقدم إلا من له الخبرة والدراية. وبما أن الأجنبي لم يُمكن الوطني من المعرفة المبنية على الخبرة سواء بقصد منه أو كسلا من ابن الوطن, فالنتيجة المستقبلية الحتمية هي سيطرة الأجنبي على البلاد والعباد واستبعاد أو استعباد أبنائه الأصليين. هذه قصة الحضارة الحديثة المعاصرة التي تحكي السيناريو الحديث المتحضر للأندلس المفقود.
استجلاب الخبرات الأجنبية للبلاد يكون تحت ثلاث صور. الصورة الأولى صورة محمودة مطلوبة وذلك بأن يُأتى بالأجنبي كخبير ومعلم فيتعلم ابن الوطن منه ليكون مؤهلا ومستقلا للقيام بتلك المهام مستقبلا ولينقل هذه الخبرات والعلوم إلى الأجيال من بعده، بعد أن يضيف إليها إبداعاته ونكهته الوطنية، كالنموذج الصيني، وهذا مع الأسف يكاد يكون معدوما أو محدودا في عالمنا العربي.
أما الصورة الثانية فهي بأن يُأتى بالأجنبي لتنفيذ مهام ومشاريع ثم يرحل دون أن يخلف وراءه معرفة كيفية تنفيذ هذه المشاريع من العدم وتكون مهمة ابن الوطن بعد ذلك هو إدارة الاستفادة من هذه المشاريع واستغلالها, وهذا ما نجده غالبا في بلادنا. إن استغلال المشاريع والاستفادة منها دون معرفة كيفية إنشائها يمنع الأمة من الاستقلالية ويجعلها أبدا أمة تابعة لغيرها لا تستطيع فكاكاً من قبضة الأجنبي، يضاف إلى ذلك أن عدم معرفة كيفية الإنشاء سينتهي بهذه المشاريع إلى الخراب وإلى التخلف والتقادم حتى لا تصبح الاستفادة منها ممكنة. إن إنشاء المشاريع من العدم هو التحدي العقلي والجامعة الحقيقية الكبرى التي تدفع العقل البشري إلى التقدم والابتكارية والتطوير وهو الذي يحافظ على هذه المشاريع من التقادم والتهالك وهو الذي يبني البنية التحتية للعقل الوطني لينهض بالبلاد والعباد إلى مصاف أرقى الأمم الحضارية ومن ثم التغلب عليها.
وأما الصورة الثالثة لاستجلاب الخبرات الأجنبية للبلاد فهي بأن تُطلق يد الأجنبي فيُحكم في المشاريع إنشاء وإدارة واستغلالا. فالأجنبي هو الذي يخطط ومن ثم هو من ينقل الأحلام إلى الواقع ثم هو من يعيش هذا الواقع ويستمتع به بنفسه وبعائلته, فهو إذن محور موضوع المشاريع إنشاء وإدارة واستغلالا, وفي هذه الصورة، الأجنبي لا يبني وطنا لغيره بل يبني وطنا لنفسه بديلا عن وطنه الأم.
قد يعترض مخالف بحجة أن الحضارة الحديثة في بعض البلاد لم تكن لتكون شيئا يذكر لولا تقديم الأجنبي في هذه البلاد وتحكيمه في كثير من الأمور، وترغيبه في إلباس البلاد بلباسه المتفسخ المتهتك الذي ألفه واعتاده في بلاده. فما أشبه اليوم بالبارحة. الأوروبيون الذين قدموا إلى الأرض الأمريكية جعلوا منها أسطورة التقدم والحضارة والرقي والعظمة وحشروا الهنود الحمر، سكانها الأصليين، في مستعمرات تحافظ على تخلفهم ورجعيتهم تحت اسم الحفاظ على التراث الشعبي، فإن كان هذا ما يطمح إليه المتهالكون على تحكيم الأجنبي في المشاريع إنشاء وإدارة واستغلالا فهم بلا شك سيحققون هذا الطموح. وأما إن كان طموحهم للأخرى فالأوطان لا يبنيها إلا أبناؤها.
اليابانيون والألمان والكوريون الذين عاشوا تحت الهيمنة الأمريكية ردحا من الزمن لم يستسلموا لهم بتسليم إدارة تفاصيل الأمور للأمريكان، بل باشر أبناؤهم بناء بلادهم بأنفسهم مستعينين بالخبرات الأمريكية الأجنبية فأدركوا بذلك الاستقلال الحقيقي.
لم يدخل أجنبي بلدا ليبنيها ثم ليخرج منها تاركا خلفه ما بنى وشيد إلا أن يدفع أهلها الأصليون فاتورة البناء من دمائهم ومآسيهم وما جنوب إفريقيا عنا ببعيد.
هل سيتكرر نموذج لبنان، لبنان النزاع والاقتتال، وهل ستجد إيران مناطق أخرى غير لبنان والعراق فتلعب دورها المحبب إليها والتي تجيده جيدا، دور إيقاد نار الفتن والحروب في المنطقة؟ أم هل سيتكرر نموذج هنود أمريكا الحمر ولكن على الطريقة الحديثة؟ أم هل سنبكي أندلس أخرى؟
وأيا كان المآل فنحن هنا في السعودية سنواجه تحديا مستقبليا حقيقيا سيصعب علينا التعامل معه إن لم نرق ونتغلب على خبرة ودراية الأجنبي الذي غلب وسيطر على كثير من أنحاء المنطقة, والذي سيصبح الآمر الناهي في هذه المناطق مستقبلا.
مما يزهدني في أرض أندلس
أسماء معتضد فيها ومعتمد
ألقاب مملكة في غير موضعها
كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد
عند إقبال الأمور ما هذه إلا نظرة تشاؤمية رجعية، وعند إدبارها تُذهل الصحوة بعد السكرة عن التفكر فيما حدث لماذا حدث.