في زمن المفاهيم المختلطة.. التراث مولود والشعر مفقود!
يصر أهل الشعر ومحبوه في الجزيرة العربية على ربط الشعر العامي المعاصر بالتراث، وهو أمر يكاد يصل إلى الإجماع، لذلك كان تناول الشعر العامي المعاصر بشكل علمي أمرا غاية في الصعوبة إن لم يكن مستحيلا، نظرا لعدم تقبل فكرة التجديد في قالبه، النتيجة التي تعيدنا إلى أصل "الشعر" وبدايته الفعلية في المجتمع الذي أوجده ولم يكن يسميه ذلك الوقت "تراثا"، وإن كان كما يسميه البعض "منتجا ثقافيا" هل هو غير قابل للتحديث والتجديد؟
خلط المفاهيم لدى المهتمين بالشعر المحكي عكس سلبيات كثيرة، لذلك سنخوض اليوم في محاولة فصل المفاهيم وتفنيد الخاطئ منها إن رأيناه خاطئا، وعلى المتعارض فكريا اللجوء إلى قلمه للدفاع عما يراه صحيحا أو خاطئا، سنحاول اليوم تحريك الراكد "القديم"، بـ"جديد" قد يخالفه كثيرون، إلا أن الخلاف الفكري قد يكون مفيدا لتحريك العقول وتأجيج ملكاتها، وهو خير بالتأكيد من التقوقع على ذواتنا بانتظار تصحيح ما نفعل من خلال الغير!
تعريف التراث
تعريف التراث في معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب: هو ما خلَّفه السلف من آثار علمية وفنية وأدبية مما يعد نفيساً بالنسبة لتقاليد العصر الحاضر وروحه، مثال ذلك: الكتب التي حققها ونشرها مركز تحقيق التراث المتصل بدار الكتب في القاهرة، وكذلك ما تحتويه المتاحف والمكتبات من آثار تعد جزءاً من حضارة الإنسان.
المعجم الأدبي يعرف التراث بشكليه الكلي والفني، فجاء على الشكل الكلي أنه: ما تراكم خلال الأزمنة من تقاليد وتجارب وخبرات وفنون وعلوم في شعب من الشعوب، وهو جزء أساسي من قوامه الاجتماعي والإنساني والسياسي والتاريخي والخلقي، ويوثَّق علائقه بالأجيال الغابرة التي عملت على تكوين هذا التراث وإغنائه. أما الجزء الفني فهو ما يبرز فيه فعل التراث في آثار الأدباء والفنانين، فتصبح هذه الآثار محصلاً لانصهار معطيات التراث وموحيات الشخصية الفردية.
أما تعريف التراث اصطلاحاً حسب المعجم نفسه فيتحمل بعدين متمايزين، أحدهما: أفقي مباشر، وهو: الموروث المادي والفكري الذي وصل إلينا من المجتمع العربي – الإسلامي. والآخر: عمودي بعيد، وهو: كل المنجزات المادية والفكرية التي صنعتها شعوب عاشت وتفاعلت مع شعوب أخرى فوق رقعة الوطن العربي – الإسلامي.
تعريف الشعر
بعد أن حددنا بعض التعريفات المهمة للموروث، سنعرج على تعريفات مهمة للشعر، لمحاولة المقارنة والفصل بين المفهومين، وسنبدأ بما ورد في "المصباح المنير" للفيومي الذي عرف الشعر العربي على أنه
"النظم الموزون، وحده ما تركّب تركباً متعاضداً، وكان مقفى موزوناً، مقصوداً به ذلك. فما خلا من هذه القيود أو بعضها فلا يسمى شعراً، ولا يُسمَّى قائله شاعراً، ولهذا ما ورد في الكتاب أو السنة موزوناً، فليس بشعر لعدم القصد والتقفية، وكذلك ما يجري على ألسنة الناس من غير قصد؛ لأنه مأخوذ من شعرت إذا فطنت وعلمت، وسمي شاعراً لفطنته وعلمه به، فإذا لم يقصده، فكأنه لم يشعر به".
وقد بدأ الفيومي كما بدأ غيره عند تعريف الشعر العربي، حيث كان أهم ما يميز الشعر في مقدمة تعريفه "النظم الموزون"، وهاتان المفردتان تعطيان مفهوما خاصا يشترط وجود التتابع الفكري المرتب (النظم) والموسيقى الثابتة على نمط معين (الوزن)، يلي ذلك في التعريف توضيح للعوامل التي يجب وجودها حتى تكتمل صورة الشعر وأركانه، أما التركيز الأساسي فكان كما ذكرنا على مفردتي "النظم" و"الوزن"، أما ما يتعلق بـ "القافية"، فهي مرتبطة ارتباطا وثيقا بـ "الوزن" ومحددة له كما يرى الفيومي وكثيرون ممن تناولوا مفهوم الشعر وعرفوه، وهو ما يذهب له ابن رشيق القيرواني في كتابه العمدة "الوزن أعظم أركان الشعر وأولاها به خصوصية، وهو مشتمل على القافية وجالب لها ضرورة".
مشكلتنا في الفهم!
ما سبق من تعاريف للموروث والشعر يثبت أن لا علاقة مباشرة بينهما، إلا أن ما كتب في عصور قديمة من الشعر هو من الموروث، كما هو حال قصائد نزار قباني ونازك الملائكة بعد 200 عام من الآن، شأنه شأن رواية "بنات الرياض" عندما يمر على كتابتها 500 عام من الآن، شأنها شأن "عجرا" ورثها دحيم عن والده عن جده عن جد والده!
أما ما يكتب من شعر الآن فهو امتداد وقد يتكئ في بنائه أو خصائصه على موروث ولكنه ليس كذلك! هو منتج ثقافي مستمر التجدد، التجديد فيه مطلب وضرورة ليتماهى مع ما حوله من متجددات، وليس حراما "محضا" أن يجدد في تركيبه وحتى تعاريفه كما يصور البعض!
زبدة الهرج نيشان!
إن خرج أحدهم عليكم يدعي خدمة التراث من خلال الشعر فهو يهرف بما لا يعرف، والسكوت عن "الهرف" سبب لنا مشكلات كثيرة وكبيرة مع الشعر ومتلقيه، فأصبح "الشاعر" متسولا، و"الشعر" بداوة، و"المفردة" جامدة، و"الجمهور" مسرح! لذلك يجب أن يقال لا لكل هارف وهارفة، وليس شرطا أن يستخدم دحيم "عجراه" في الموضوع، يكفي أن نتناقش بعقولنا بكل هدوء من خلال المعرفة والعلم والمنطق ومقارعة الحجة بالحجة، الشعر ليس تراثا، وعلى المتضرر اللجوء إلى عقله وإنتاج ما يقنع بغير ذلك!