شركات أدوية وأغذية تتلاعب بنتائج الأبحاث والدراسات.. وعلماء يقعون في الفخ
في الوقت الذي بدأت تتزايد فيه الشكوك حول مصداقية العديد من الدراسات والأبحاث المتعلقة بسلامة الأدوية والأغذية، خاصة مع تحميل بعض العلماء مسؤولية تغييب بعض الحقائق التي تؤكد ضرر هذه المنتجات, إضافة إلى إجراء دراسات مضللة تزعم سلامة منتجات ضارة نتيجة عمل هؤلاء العلماء لحساب الشركات مقابل إغراءات مادية كبيرة، ظهرت معارضة من علماء آخرين أخذوا على عواتقهم فضح تلك الدراسات وتوعية المستهلكين بالأساليب التي تنتهجها تلك الشركات.
وفي هذا السياق نشرت مجلة النيوساينتست منذ أيام خبرا مفاده أن شركة ميرك الدوائية العملاقة كانت على علم بأخطار عقار (فيوكس) الذي سحبته من الأسواق في عام 2004 قبل ذلك بأعوام. فقد أجرى ريتشارد كرونمال عالم الإحصاء في جامعة واشنطن أبحاثا على وثائق الشركة, كما أدلى بشهاداته كخبير في الدعاوى القضائية ضد الشركة. وأكد كرونمال أن تقريرا داخليا للشركة وصف تجارب قامت بها على 2000 مريض تقريبا، تناول نصفهم (فيوكس) لمدة وتناول النصف الآخر دواء وهميا. ويقول التقرير إن 34 مريضا من القسم الأول توفوا, في حين توفي 12 مريضا من القسم الثاني. وما حدث أن الشركة حذفت الوفيات الحاصلة بعد استكمال علاج الفيوكس من التقرير الذي قدمته لإدارة الغذاء و الدواء الأمريكية.
ولا شك أن تصرف هذه الشركة يثير القلق, ولكنه يطرح أيضا قضية في غاية الأهمية وهي الأبحاث العلمية التي تمولها الشركات الكبرى لدراسة منتجاتها وبالتالي إمكانية الثقة بتلك الأبحاث.فقد ذكرت مجلة ريدرز دايجست الأمريكية في عددها الأخير(أبريل 2008) أن الشركات تدفع جزءاً كبيرا من ميزانية قسم مراجعة الأدوية في إدارة الغذاء والدواء الأمريكية. كما أن عددا لا يستهان به من العلماء باتوا يخشون على سمعتهم هذه الأيام بعدما كثرت أصابع الاتهام المشيرة إليهم بمحاباة الشركات الكبرى والتغاضي عن سلبيات منتجاتها. وبلغ الأمر ببعضهم إلى التوقف عن قبول أي مقابل مادي من الشركات كما ذكرت النيويورك تايمز في الخامس عشر من الشهر الجاري. واعترف أحد العلماء وهو كيلي برونيل, مدير مركز رد لسياسات الأغذية والسمنة في جامعة ييل أنه وبعد نحو 20 عاما من العمل مع الشركات وقبول مبالغ مالية كبيرة مقابل جهوده معهم بدأ يراجع نفسه بل ويتساءل عن مدى موضوعيته تجاه تلك الشركات ومنتجاتها. وأضاف أن الوقوع في فخ الانحياز سهل لسببين: إغراء المال المتدفق باستمرار وتطور علاقة العلماء بموظفي الشركة حيث يشعرون أنهم جزء من فريق.
من نصدق؟
وحين يتأمل المرء في كمية الأبحاث التي تصدر يوميا لتقول لنا إن هذا الدواء يسبب الأزمة القلبية وذاك المنتج قد يؤدي للتسمم، ثم لا تلبث أن تَصدُر أبحاث مضادة تطمئن الناس بأن الدواء لا يضر القلب والمنتج ليس ساما... فلا يسعنا إلا التساؤل: من نصدق؟ ولمَ هذه المعلومات المتضاربة؟
لقد خاض الكثيرون في هذه الأسئلة وحاولوا الوصول للحقيقة، ولكن يبدو أن هناك جهات تفضل بل وتعمل على حجب الحقيقة عن المستهلك فيبقى حائرا بين هذا البحث وذاك. فقد كتب أحد المسؤولين التنفيذيين في شركة تبغ عملاقة يملكها آر جي رينولدز: "الشك هو منتجنا، فهو أنجح أسلوب لمنافسة مجموعة الحقائق المتوافرة للرأي العام، كما أنه وسيلة لإثارة الخلاف و الجدل". وهكذا تستمر الشركات الكبرى في تسويق منتجاتها المضرة طالما أنه لا توجد معلومات قاطعة حول ضررها. فهم يستغلون خاصية أساسية في الأبحاث العلمية وهي أنها غير قطعية، بل تقدم براهين و تجارب تثبت نظرية ما بنسبة 90 في المائة –مثلا- أو أقل أو أكثر. ولكن مجرد ترجيح العلماء لخطر منتج ما ينبغي أن يدفع الشركات لتغيير منتجاتها أو حتى سحبها من الأسواق.
ويذكر ديفيد مايكلز المتخصص في علم الأوبئة والبروفيسور في جامعة جورج واشنطن بعد أن عمل في وزارة الطاقة الأمريكية لمدة ثلاث سنوات، في كتابه (الشك هو منتجهم) أن أخطار عقار البي بي إيه ((ppa الذي منعته إدارة الغذاء و الدواء الأمريكية عام 2000 والذي يسبب نزيفا دماغيا ظهرت منذ السبعينيات. وفي حين أن الإدارة استجوبت المصنعين عن سلامة العقار، رفضت الشركات المنتجة التعاون وعينت علماء وظيفتهم إثبات سلامة الدواء من أي مخاطر. وفي 1999 أثبتت دراسة أجرتها جامعة ييل العريقة أن العقار يسبب النزيف الدماغي، وما كان من الشركات إلا اللجوء لمؤسسة استشارية متخصصة في الدفاع عن المنتجات التجارية لتهاجم البحوث والعلماء المشاركين فيها. وفي النهاية وبعد نحو 500 نزيف دماغي سنويا لمدة عشرين عاما تقريبا منعت إدارة الغذاء والدواء العقار عام 2000. وفوق هذا نشرت جريدة الجارديان البريطانية هذا الشهر نتائج أبحاث قام بها علماء إيطاليون في معهد ماريو نيجري للأبحاث الدوائية تفيد بأن العديد من شركات الأدوية الكبرى تعمد إلى وقف دراساتها و تجاربها على الأدوية حال ظهور أول النتائج الإيجابية و ذلك بغية الإسراع بالحصول على رخصة طرحه في الأسواق قبل منافسيهم. ويقول أحد الباحثين وهو الدكتور جيوفاني أبولون إنه في ظل غياب المعلومات الشاملة المستخلصة من التجارب طويلة المدى لا يمكن التأكد من فعالية الدواء و سلامته. ويضيف أن اكتشاف الأعراض الجانبية لدواء ما يستغرق سنين على حين أن الشركات تقوم بأبحاثها لمدة 30 شهرا أو أقل.
4 آلاف عالم يوقعون عريضة تتهم إدارة بوش
يطلق علماء الشركات وصف العلم الركيك على الأبحاث العلمية التي تلقي الضوء على مضار منتجات الشركات الكبرى و سلبياتها. فتزعم الشركات وعلماؤها ومؤسسات الدفاع عنها أن تلك الأبحاث غير مدعومة ببراهين وغير جازمة. وفي عام 2001 صدر قانون (DQA) أو (تنظيم نوعية المعلومات) الذي ينص على التأكد من سلامة المعلومات التي تقدمها الجهات الحكومية وبالذات إذا كانت المعلومات تقتضي اتخاذ إجراءات ضد القطاع الخاص. ويبدو هذا شيئا إيجابيا لأول وهلة، ولكن 4000 عالم من ضمنهم عشرات الفائزين بجائزة نوبل اعتبروه تسييسا للعلم ووقعوا عريضة عام 2004 يتهمون فيها إدارة بوش بذلك. فهم يرون أن هذا القانون يقف في صف الشركات الكبرى حيث يطالب الهيئات الحكومية بالاعتماد على الأبحاث العلمية القاطعة فقط عند فرض القيود على الشركات مما يصعب عمل تلك الهيئات. فهدف الهيئات هو حماية صحة المواطن بالاعتماد على الأدلة العلمية الراجحة وإن لم تكن قاطعة ، فاحتمال 70 في المائة مثلا أن يكون منتج ما مضرا ليس قطعيا بالتأكيد، ولكنه في رأي الأوساط العلمية ينبغي أن يكفي لمنع المنتج أو تقييد عملية تسويقه وإن أضر ذلك بالصحة المالية للشركات.
المثير في الأمر أن واضع هذا القانون تدور حوله كثير من الشبهات، وهو جيم توزي رئيس مركز فعالية القوانين كما كان يعمل في مكتب الإدارة والميزانيات في الإدارة الأمريكية(OMB).أما سيرته الذاتية فتتضمن عمله مع شركة فيليبس موريس للتبغ بهدف تكذيب البراهين المتزايدة على خطر التدخين السلبي، وأسفرت تلك المحاولات عن ابتكاره لاستراتيجية التشكيك في الأبحاث العلمية التي تضر بمصالح مموليه و تهدد بإصدار قوانين تحد من أرباحهم. ومنذ أن صدر القانون وهو يستخدم لتمويه الكثير من الأبحاث والتشكيك بها كما ورد في تحليل قامت به الواشنطن بوست. فقد استفادت منه شركات النفط في تكذيب تقارير التقييم الوطني للتغير المناخي، كما استخدمته الشركات الغذائية في مهاجمة الإرشادات الغذائية لمنظمة الصحة العالمية التي توصي بتقليل استهلاك السكر لمحاربة السمنة.
ليست الأدوية فقط
تتزايد المخاطر على صحتنا كل يوم: الأغذية المعدلة جينيا، الاحتباس الحراري، الاستهلاك العالي للسكر والملح. كل هذه القضايا أثيرت وما زالت من قبل العلماء المستقلين والناشطين في مجال الصحة و البيئة وحقوق المستهلك، كما أن العديد من الأبحاث العلمية التي أجريت حول العالم أثبتت بشكل راجح جدا مضار هذه الظواهر. ولكن مارد فعل الشركات الكبرى؟ قال استشاري في مجال التقنية الحيوية اسمه ستيوارت ليدلو لصحيفة التورنتو ستار الكندية عام 2001: "تأمل الشركات الغذائية في إغراق الأسواق العالمية بمنتجاتها المعدلة جينيا إلى درجة تجعل فعل أي شيء لمناهضة هذه الأغذية غير مجد، وعندها سيضطر الناس للاستسلام"* فعلى الرغم من الأصوات المتعالية بالاعتراض على هذه التقنية التي تتلاعب بأغذية الناس الأساسية إضافة إلى الأبحاث التي تثبت خطرها، لم تأل الشركات جهدا في التشكيك في مخاطر تلك المنتجات ومن ثم تسويقها، وفضيحة الأرز المعدل جينيا الأخيرة خير مثال.
توصية باستخدام الأدوية التي مضى عليها 5 سنوات
إن ثورة العلماء حول العالم ضد هذه الممارسات الجشعة تبشر بمستقبل أفضل، هذا بالإضافة إلى زيادة وعي الناس بأساليب خداعهم والفضل في ذلك يعود لشرفاء العالم الذين لايفتأون ينددون بكل ظلم أو كذب أو خداع يشهدونه. فأمثال ديفيد مايكلز وليندا روزنستوك والأربعة آلاف عالم ممن وقعوا العريضة آنفة الذكر وغيرهم يثابرون في مناهضة هذه الديكتاتورية الرأسمالية, ويبقى أن نأمل أن تبوء جهودهم بالنجاح. أما ما ينصح به هؤلاء العلماء فهو زيادة الوعي و الحذر من العقارات الجديدة. فيوصي الدكتور دراموند ريني من جامعة كاليفورنيا باستخدام الأدوية التي استمرت في الأسواق لمدة لا تقل عن أربع أو خمس سنوات ويقول إنه يفعل ذلك هو وأسرته. ولكنه يضيف أن الاستثناء في هذه الحالة هو المرضى ذوو الحالات المستعصية الذين قد يتقبلون المجازفة أكثر من غيرهم. كما يوصي العلماء و الأطباء بضرورة التبليغ فورا عن أي أعراض جانبية ومضاعفات إلى الجهات المختصة لأن ذلك يسهم في اكتشاف العقارات الخطيرة بشكل أسرع.
* كتاب (بذور الخداع : فضح أكاذيب الشركات و الحكومة فيما يخص الأغذية المعدلة جينيا) تأليف جيفري
سميث.