بسم الباري .. قلة القميري وكثرة الكرك .. تساؤلات تبحث عن إجابة

بسم الباري .. قلة القميري وكثرة الكرك .. تساؤلات تبحث عن إجابة

في كل عام تهاجر أغلب الطيور في العالم عبر رحلات شائكة مختلفة الاتجاهات والمسافات بحثا عن الظروف المعاشية المناسبة لها كالمناخ أو للتزاوج والتوالد .. فبعضها يهاجر من الشمال إلى الجنوب أو العكس، وقد تهاجر من الغرب إلى الشرق أو العكس وقد تتبع مساراً واحداً في الهجرة والعودة أو قد تتبع واحداً في الهجرة وآخر في العودة. وكذلك تختلف وقت الهجرة بين أنواعها بل تختلف في إطار النوع الواحد بين الصغير والكبير والذكر والأنثى. فالذكر في بعض أصناف الطيور يهاجر قبل الأنثى بعدة أسابيع ليشيد مكانا مناسبا للمعيشة لاستقبال الأنثى في بداية موسم التزاوج. وبعض الأنواع يهاجر فيها الكبير قبل الصغير .. بل وأحياناً الصغير يسبق الكبير في وقت هجرته وهكذا.
فالهجرة – فطرة ربانية وغريزة وراثية .. .. فالطيور الصغيرة تهاجر بنجاح دون مساعدة الكبيرة الخبيرة بالرحلة ذاتها – كأن خريطة ثابتة قد رسمت على جينات هذه الطيور وقد قام العالم Helbig بتجربة غريبة جدا حول الهجرة فزوج الطيور المغردة النمساوية والتي تهاجر باتجاه الجنوب الشرقي .. بالطيور المغردة الألمانية والتي تسلك الاتجاه الجنوبي الغربي في هجرتها إلى إفريقيا.
 فكانت النتيجة أن الطيور الصغيرة الناتجة عن التزاوج سلكت طريقاً وسطاً بين طرق الآباء .. وهو طريق يمر بها عبر جبال الألب الوعرة لم يسلكه الآباء من قبل .. وكأن الخريطة؟ قد جمعت بين الطريقين.
نأخذ من هذا أن الهجرة مزيج من النشاط الهرموني والبواعث الخارجية كالتغيرات المناخية. والنشاط الهرموني هذا يختلف بتغير طول النهار نسبة إلى الليل كعلامة مميزة للفصول الأربعة وفي تجارب مثيرة .. لاحظ العلماء أن بعض الطيور قد تصاب بالقلق والاضطراب قرب ميعاد الهجرة نتيجة للتغيرات الهرمونية.
أما أسباب الهجرة فيمكن تقسيمها بشكل عام إلى:
1) أسباب غير مباشرة:
 عبارة عن الأسباب الأصلية التي تولد مع الطيور وتوجد فيها منذ خروجها إلى الحياة من بيضها عن طريق الوراثة (أي الاستعداد الوراثي) الكامن في نفوس الطيور.
2) أسباب مباشرة أو موسمية:
 وهي الأسباب والعوامل التي تؤدي إلى تحرك وإبراز الاستعداد الوراثي للهجرة الغريزية لدى الطيور، ومنها الأحوال الجوية كدرجة الحرارة والضغط الجوي، وعليه فإن الحرارة المنخفضة والمستقرة في الخريف تعمل على تنشيط الهجرة.
 ويحاول العلماء، إضافة الجديد كل يوم في أساليبهم لتتبع هجرة الطيور وتقديم إجابة شافية حول بعض ألغاز الهجرة .. الطريقة التقليدية في هذا كانت تتم بوضع حلقة في رجل الطائر توضح المكان الذي وجد فيه لتتبع مساره كما حدث في أمريكا وكندا حينما وضعت حلقات لأكثر من 11 مليون طائر .. .. وقد دخل استخدام الرادار والأقمار الصناعية حديثا في توضيح طرق الهجرة وارتفاع وسرعة الأسراب المهاجرة.
وعند اقتراب موسم الصيد يستعد الهواة بكل ما أتوا من قوة لاصطيادها، إلا أن المتأمل في حال الهجرة يجد أنها تغيرت من ناحية نوعية الطيور المهاجرة وندرة بعضها وكثرة بعضها الآخر إلى غير ذلك من الأمور اللافتة للانتباه, وكل هذه الأمور جعلت الهجرة موضع تساؤل عند شريحة كبيرة من الصيادين فقد لوحظ استحداث أنواع لم تكن معروفة من قبل .. فمثلا الصفار والجوني والقطا أصبحت في عداد الطيور النادرة, وبالجانب الآخر تكاثرت أنواع أخرى من الطيور كالكرك واليمام التي لم تكن معروفة من قبل.
وتباينت وجهات نظر المحللين حول هذا التساؤل، وأود أن أدلي بدلوي من الناحية الفلكية .. فمما ينبغي الإشارة إليه أن العلماء توصلوا إلى أن الطيور تستخدم المجال المغناطيسي الأرضي، وكذلك تستخدم مواقع النجوم أثناء الليل للاهتداء على طريق هجرتها. وقد ثبت علميا أن المجال المغناطيسي يعتريه بعض التذبذب في دورة زمانية تتوافق مع دورة الكلف الشمسية .. أضف إلى ذلك أن المجاميع النجمية تقهقرت بسبب مبادرة الاعتدال، فتغيرت أماكنها، وهذا له تأثير على جاذبية الأرض ومغناطيسيتها وعلى المناخ أيضا.. ففي أرصاد الصين القديمة كان الميل الكلي للشمس (أقصى درجة انحراف للشمس تجاه الشمال والجنوب) بلغ 23 درجة و50 دقيقة، وفي زمن بطليموس العالم اليوناني الذي عاش في الإسكندرية في القرن الثاني للميلاد (170ميلادي) بلغ الميل 23 درجة و35 دقيقة، وفي القرون الماضية كان الميل الكلي المسجل 23 درجة و30 دقيقة تقريبا، وفي نهاية القرن التاسع عشر كان الميل 23 درجة و28 دقيقة، وفي كل المؤلفات التي ألفت في القرن العشرين كان الميل 23 درجة و27 دقيقة، أما الآن في عصرنا الحاضر فقد أصبح الميل 23 درجة و26.4 دقيقة، بمعنى أن كل هذه التغيرات تدل على أن الميل الكلي للشمس في تناقص مستمر ويتولد عنه تغير في المغناطيسية الأرضية وكذلك على المناخ، مما جعل المنخفضات والمرتفعات الجوية تتدافع فيما بينها فحصل تزحزح في الجو فاستعملنا جو غيرنا من البلدان المجاورة فشمال إفريقيا تدافع إلى الشمال, فأثر على جو أوروبا، بمعنى أن جو إفريقيا انتقل إلى أوروبا، مما جعل الحرارة تنتقل عنا إلى قارة آسيا، وهذا الذي جعل الفيضانات تزداد في هذه السنة على آسيا، لأن زيادة معدل الحرارة هناك زاد من معدل إذابة الثلوج على قمم الجبال فانسابت المياه، الأمر الذي جعل الأنهار والبحار تفيض وغرقت بعض المدن الساحلية هناك، وكل هذه العوامل سببت تذبذبا في هجرة الطيور.

- باحث فلكي

الأكثر قراءة