ظاهرة القدج في مجتمعنا!
تحدثت في هذه الزاوية الأسبوع الماضي عن مشكلة (فوبيا الجديد)، التي عانى ومازال يعانيها مجتمعنا كنتاج لإرث اجتماعي ثقيل من صفاته الفريدة تجريم الجديد حتى يظهر الزمن براءته, وضربت عدداً من الأمثلة الشائعة التي تصور هذه المشكلة بشكل واضح لمن ينكرون وجودها أو يحاولون التقليل منها. طبعاً لا يمكن إنكار وجود فئة من أفراد هذا المجتمع تمكنوا من التحرر من تلك الفوبيا وتجاوزوها بأقل الأضرار الممكنة, وأقول هنا (أقل الأضرار) نظراً لاستحالة أن ينجو فرد قرر أن يخالف القاعدة من ضرر يلحق به وإن كان ذلك الضرر معنوياً, كتسليط سياط (الانتقاد) عليه بمفهومها الشعبي لا (الأدبي).
ولك أن تلاحظ أمثالنا الشعبية التي ترسخ في المجتمع التبعية للسائد ورفض التغيير, والتي تطالبك بأن (تلبس ما يعجب الناس) وليس مهماً ما هو ذلك (اللباس), لا تكتفي بهذا بل هي في أغلبها أمثال تعيب المخالف, وتؤكد أن (الموت مع الجماعة رحمة) رغم أنه لا يوجد أي فرق بين الموتتين, فكلتاهما خروج نهائي من هذا العالم!
الغريب والمضحك في الوقت نفسه أن هذا المنهج الاجتماعي السائد ينعكس ليظهر بشكل فاضح في وسائل إعلامنا عن غير قصد, وهو أمر يثير استغراب كثيرين في العالم من حولنا, ولكم في المانشيتات والعناوين الرئيسية للتحقيقات الصحفية الاجتماعية التي تُنشر في صحافتنا خير مثال, طبعاً لا أريد الإشارة لتحقيقات معيّنة حتى لا أسبب حرجاً لمعديها, لكن السؤال المهم والذي يحتاج لإجابة منطقية هو: لماذا يعمد الناس للقدح في أي شخص قرر الاعتماد على عقله ومخالفة عادة اجتماعية سيئة برأيه ؟!
قد يظن كثير منكم أن السبب هو مجرد التعود, باعتبار أن المجتمع اعتاد القدح في كل مخالف للسائد دون استثناء, وهذا من وجهة نظري الخاصة لا يرقى لأن يكون السبب الرئيس والحقيقي لهذه الظاهرة, فهناك سبب أهم بكثير يتمثل في شعور نابع من العقل الباطن للشخص المتقيد بتبعيته للمجتمع.. هذا الشعور هو عدم القدرة على مقارعة حجة الشخص الذي تحرر من القيد الوهمي باعتباره لم يُلق بالاً لكل تلك الأسوار المحيطة بالعادة الاجتماعية المخترقة, ولم يضرب أي حساب للسياط التي ستناله جراء ذلك وهو أمرُُ يجعله يبدو شجاعا بين مجموعة من الجبناء, مما يؤدي إلى تطور شعورهم تجاهه ليتحول إلى رغبة شديدة في إلحاق الأذى المعنوي به.
وهنا يتضح المشهد كاملاً ويتلخص في أن ظاهرة الانتقاد والقدح في المخالف للسائد - بناء على رؤيته الخاصة - هي ظاهرة ناتجة عن جبن أفراد ورغبتهم الشديدة في إيذاء كل خارج عنه انتصاراً لأنفسهم وتحسيناً لصورتهم التي هشمتها تجربة هذا المخالف!
أحد الأصدقاء حكى لي قبل أيام عن حادثة جرت له شخصياً قبل سنوات عندما قرر أن يلغي (المجلس) الذي يحتل مساحة كبيرة من منزله دون فائدة ويحوله إلى مكتبة نظراً لأنه لا يستقبل زواراً في منزله إلا من أقاربه في فترات متباعدة, يقول ذلك الصديق إن جميع أقاربه لاموه ووصفوه بالحمق وعدم تقدير الضيوف بل وشنوا حملات مكثفة لزيارته بقصد إحراجه, وكان يستضيفهم في تلك المكتبة دون أي مبالاة, لتمر السنوات ويقرر أغلب أولئك الأقارب اللائمين عدم استضافة أي عدد كبير أو صغير من الزوار في منازلهم, بعد أن تشاركوا في استئجار استراحة تكون مكاناً مناسباً للاجتماعات العائلية والمناسبات السعيدة والتعيسة أيضاً, لكنهم مازالوا يتندرون عليه حتى اليوم!