التلقين بين التعليم العام والعالي
قابلت أحد الشباب الذين حصلوا على الثانوية العامة هذا العام، وهو يتأهب لدخول الجامعة. قال وزفير الارتياح يرافق كلامه "الآن سأرتاح من الساعات اليومية الطويلة من التلقين المتواصل". ثم قال أيضاً "بالتأكيد لن تكون الدراسة الجامعية على هذا النحو". في القول الأول احتجاج من الطالب على التعليم التلقيني الذي غالباً ما يصيب أمثاله بالملل، ناهيك عن الحد من نشاطهم الفكري. وفي القول الثاني أمل في أن يكون التعليم العالي مُختلفاً لا يكتفي بالتلقين، بل يُشجع على التفكير والمشاركة.
لا شك أن جعل التعليم تلقيناً فقط مُحبط للطالب، ومُقيد لتفكيره ولقدرته على الإبداع والابتكار. يحتاج الطالب، سواء في التعليم العام أو في التعليم العالي، إلى أستاذ يُحاوره ويُشجعه على التساؤل وإبداء الرأي؛ يحتاج إلى أستاذ يستخدم الوسائل الجديدة والمُتجددة لنقل ما يُقدمه من معرفة إلى الطالب بكفاءة وفاعلية؛ يحتاج إلى أستاذ يُشاركه في العمل المعرفي ويستنبت بذلك طاقاته الفكرية، وإمكاناته الإنسانية.
إذا كان ما سبق يُمثل ما يحتاج إليه الطالب، فهل يستطيع الأستاذ الاستجابة لهذه الاحتياجات؟ الأستاذ في الغالب مُقيد بأربعة عوامل رئيسة. أولها عدد الطلاب في الفصل الواحد، فكثرة هؤلاء تحد من إمكانات التواصل والحوار. وثانيها المنهج المقرر، والحقيقة هنا أن المشكلة ليست في المنهج فقط، بل بما جرى الاعتياد على تقديمه من تفاصيل يُطلب تلقينها ضمن المنهج، حيث تأخذ هذه التفاصيل وقتاً طويلاً يستهلك زمن الحصص الدراسية، ولا تُبقي للمُشاركة وقتاً يُذكر. وثالثها، عدم توافر الوسائل التعليمية الجديدة والمُتجددة على نطاق واسع. أما رابعها فعدم اعتياد الأستاذ ذاته على ثقافة الحوار والمُناقشة عبر حياته كطالب أو بعد ذلك كأستاذ.
على أساس ما سبق، نجد أن كلاً من طرفي التعليم: الطالب والأستاذ يُواجهان مشاكل مُختلفة. ونظراً لأن التعليم عمل تصب مُخرجاته في المستقبل، فإن مشاكل الحاضر فيه، هي مشاكل على المستقبل في المجتمع، ولا بُد من العمل على إيجاد الحلول المُناسبة لها، سواء الحلول السريعة على المدى القريب، أو الحلول المتأنية على المدى البعيد.
ولعله من المفيد هنا تقديم بعض المُلاحظات والمقترحات حول التعامل مع المشاكل المطروحة. في موضوع المناهج، لا بد إعادة النظر في أسلوب عرضها، وفي تلبيتها لحاجة المجتمع، على المستويين المحلي والعالمي، بما يزيد الفوائد التي يتلقاها الطلاب، وبما يشجعهم على المشاركة. وفي إطار توسيع الحوار، خصوصاً العلمي منه، يُمكن التوسع في النشاطات اللاصفية في الموضوعات المُختلفة، بما يُتيح وقتاً أطول وفرصاً أكبر للتواصل بين الأستاذ والطالب، وبين الطلبة أنفسهم، حيث يشجعهم ذلك على العمل ضمن فرق مُتكاملة، يُمكن أن تُقدم مُنجزات مفيدة.
وفي مسألة الوسائل التعليمية، تبرز فكرة الشراكة في استخدام الوسائل المتوافرة على نطاق محدود. كما تبرز أيضاً فكرة التركيز على إمكانات الوسائل المُتاحة على نطاق واسع. وتجدر الإشارة هنا إلى وجود وسائل كثيرة متوافرة على الإنترنت، في إطار ما يُسمى "بالفضاء الافتراضي Cyberspace". ويُمكن العمل على الاستفادة من الإمكانات المُتاحة في هذا الفضاء.
وهناك على أرض الواقع جهود حثيثة تُبشر بالخير، سواء على مستوى التعليم العام أو على مستوى التعليم العالي. فهناك جهود لتطوير المناهج، وأخرى لاستخدام الوسائل المُختلفة خصوصاً في مجال التعليم إلكترونياً. كما أن هناك جهوداً لتطوير إمكانات الأساتذة وتحديث مهاراتهم. ثُم هناك حوافز للأساتذة على بذل المزيد، وحوافز أخرى للطلبة على الإبداع والابتكار، والإسهام في النشاطات المعرفية التي يُمكن تحويلها إلى فوائد اقتصادية. وندعو الله العزيز القدير، أن يكلل جميع هذه الجهود بالنجاح، وأن يكون هناك دائماً طموحات نحو المزيد. والله من وراء القصد.