الهدام.. حكاية نجدية تلفت أنظار الرواية نحو التاريخ

الهدام.. حكاية نجدية تلفت أنظار الرواية نحو التاريخ

-1-
صدرت أخيرا عن دار طوى للنشر والإعلام رواية "الهدام"، وهي الراوية الأولى لمؤلفها موسى إبراهيم النقيدان، الذي أشار في مطلع الكتاب، وآخره، إلى أنها كتبت قبل تاريخ نشرها بنحو ست سنوات.
والرواية بالإضافة إلى تعالي مؤلفها على النزعة التي قادت بعضاً من كتّاب الرواية في السعودية إلى تعرية أبطالهم لستر تواضع مواهبهم، فإنه أفلح في اجتياز مشكلة التوازن في استخدام اللغة الأدبية، التي عانى منها بعض زملائه، فمع استثناءات محدودة، كان النص بسيطاً، ذا لغة وظيفية تعبر بوضوح عن الأحداث المتوالية، بعيداً عن اللغة الأدبية المكثّفة التي تورط فيها بعض كتاب الرواية المحليين – والعرب- على نحو جعل أعمالهم أقرب إلى محاولة شعرية أخطأت طريقها إلى النثر، أو قصة قصيرة استطالت دون قصد.
وبالاقتراب أكثر إلى الجانب الفني، فإن الملمح المسؤول عن رفع مستوى التشويق في هذه الرواية هو بطولة الحدث، إذ لا إغراق في استعراض اللغة، ولا هوس بالتحليل، ولا إسفاف بإقحام مشاهد تهدف إلى نشر الكتاب، وقبض الذوق، ولا صراخ بشعارات تدفع كرشا للقراء المتحمسين هنا، أو هناك.
ويحسب للكاتب أنه، وخلافاً لكثير من رفاقه الروائيين، والروائيات، في السعودية، عزف عن البطل الذي تدور حوله الأحداث، واختار أن يروي قصة مجتمع بمسح عرضي، وبخطوط طولية تتشابك، وتتوازى، واستعماله لهذا الأسلوب أنتج نصاً زاخراً بالأحداث، وساعده في رفع الملاحظة الفنية على نمطية بعض الشخصيات، إذ إن هذه النمطية مقبولة في ظل المدى الزمني القصير لأحداث القصة، وفي إطار الظهور المحدود لأغلب الشخصيات.
-2-
إلى ذلك فإن الرواية هي واحدة من المحاولات الأدبية التي تكاثرت في السنوات الأخيرة لتشكل ما يبدو أنه مدونات للتاريخ المحلي، أو لجزء منه، ولكنها تحولت على نحو غير مقصود حيناً، ومقصود أحياناً، لتثبيت حوادث معينة، بل وتثبيت قراءات محددة لها، بما جعلها مدونة لذاكرة خاصة عن التاريخ المحلي، وهو أمر مبشّر إذ لا شيء يفقدك التاريخ مثل القراءة الواحدة المراد تعميمها.
وهذه الرواية يختار مؤلفها أن تجري أحداثها في بلدة "الحفرة"، ويبدو للقارئ منذ صفحاتها الأولى أن المقصود بالبلدة مدينة نجدية معينة، غير أني أميل إلى احترام خياره بعدم التصريح بالاسم، واختار أن تقع –أي الأحداث- على مسافة العشرين يوماً الأخيرة من "الوسم" من عام 1376هـ، حيث استمرت الأمطار طيلة أيام "الوسم" البالغة أربعين يوماً، وكان من نتائج هذا تهدم البيوت الطينية، ولذا سميت سنة "الهدام" لكثرة ما تهدم فيها من البيوت، وهو الأمر الذي أدى إلى هجرة كثير من أهل "الحفرة" إلى الخلاء المحيط، وسكن الخيام، ومعايشة انتظار نهاية الكارثة، ومراقبة مواكب الموت المتوالية لمن بقي في "الحفرة".
إن هذا المسرح الذي اختاره مؤلف الرواية هو أحد مثيرات الانجذاب إليها، فكثير من القرى –وإن شئت المدن- النجدية لا تملك تاريخاً مكتوباً عن حياة الناس الاجتماعية، عن بيئتهم، وظروفهم، وأحوالهم، عن أساليب عيشهم في الملبس والمطعم والمشرب، عن أحلامهم، وخيباتهم، أو ما كانوا يعتبرونه كذلك، على أن مادة غير قليلة لهذا لازالت موجودة في مرويات شفهية متوارثة، وذكريات يسردها المسنون حيثما تغيب أجهزة التسجيل.
وباستثناء ما دونه بعض الرحالة الأوربيين، وما حفظته الصدور من تراث الشعر العامي، لا نكاد نملك صورة واضحة عن ملامح الحياة اليومية في المجتمع النجدي القديم، ولا يحفظ لنا التاريخ المكتوب – غالباً - إلا شيئاً من تاريخ الأئمة، والعلماء، والفرسان، والشعراء، والغزاة.
-3-
وهذا التدوين يثمن عالياً لهذا العمل على المستوى الثقافي، إلا أنه في المعيار الفني يعتبر مضموناً للرواية، ينبغي –في رأيي على الأقل- أن يقف منه من يسعى إلى نقدها نقداً أدبياً، موقفاً محايداً، لا يشغله منه إلا كيفية تعامل المبدع مع تلك الأحداث التاريخية، لا من حيث قياس صدق خبره، أو اختبار عدالة قراءته، وإنما من حيث قدرة المؤلف على استخدام تلك الأحداث بما يضيف فنياً إلى نصه، فهو اختار أن يكتب عملاً أدبياً لا أن ينشر مدونة تاريخية، لذا لزمه أن يحتفظ بعناصر العمل الأدبي وإن روى لنا حدثاً تاريخياً معروفاً، أو مغموراً.
ومن هذا المنطلق فإني أحتسب للكاتب بعث الروح في بيئته المتخيلة، بحسن تصويره للمناخ النفسي الذي تجري فيه الأحداث، وخلق شخصيات تتسم بالحياة بما فيها من سعي للمثالية وانجذاب للواقع، ومحاولات إنسانية نشطة لتبرير الذات الصالحة، وتبرير كل مقابل مبغض لها، وثنائية القراءة والحكم على الناس والأشياء، وتبدل المواقف السريع بحسب المصلحة القريبة، والجمع بين فعل الهزيمة وخطاب التحدي،
وإبرازه ملامح كثيرة لحياة نجدية سالفة، لا يتسع المقام هنا لبسطها، وفي حدود معرفتي فإن تصويره هذا كان على درجة عالية من الأمانة، ومن تلك الملامح أن الإعاقة الجسدية، والذهنية، لم تكن حاجزاً اجتماعياً بين الناس، ومنها أن العلاقة بالحيوان كانت علاقة شعورية متبادلة، فيها الحب والحنين، والحقد والاحتقار، ومنها سعة الصدر في تلقف الخبر، وسعة المخيلة في روايته، ومنها شيوع العقاب الجسدي العلني بأدوات محلية بحتة، ومنها أن توافر الطعام الجيد سبب كاف للحضور والمجاملة.
-4-
وكما اختار النقيدان مسرحاً ساهم في زيادة مساحة المتعة، اختار إطارين زمنيين أثريا عمله، ففي الإطار الأول –كما أسلفت- كان خياره لمرحلة "الهدام" حيث الأزمة في أوجها، والناس يعيشون تحت ضغط ظرف مناخي استثنائي، قاد كثيراً من أبطال الرواية إلى التجلي، والكشف عن ملامح داخلية ظلت مطمورة، قبل هذه اللحظة، والإطار الثاني، وهو الأوسع، يخص لحظة تحول تاريخي عرفتها "الحفرة" بولوج عصر جديد، مختلف عن كلما سبقه، بتحدياته الضخمة، والعديدة، والسريعة، حيث ظهور تقنية الاتصال المتمثلة في شكلها الأول بالبرقية، وبدء حلول السيارة محل سفينة الصحراء، وإعطاء إشارة الانطلاق لتعليم المرأة، وإذ وصلت من غربها –أي الحفرة- أفكار حركة الجماهير السياسية، ومن شرقها عادات الأمريكيين، وبين ذلك كله ولدت الهوايات المثيرة للريبة مثل اقتناء صور السافرات وركوب الدراجات الهوائية، وبعيداً عن خوض جدليات التقويم للمرحلة ونشوة الاستشهاد بها، الشاهد هنا أنها كانت لحظة مفصلية، فرقت أبطال الرواية، وأظهرت تعدد خيارات المواجهة لديهم، من أول الانطواء التام إلى آخر الترحيب العارم.
والخلاصة أن هذا الاختيار للإطارين الزمنيين، كان بالإضافة إلى البيئة الحية، وبطولة الحدث، عوامل مسؤولة - في رأيي - عن كم المتعة والتشويق التي حملتها الرواية.
-5-
ورغم الحفاوة المنتظرة، والمستحقة، للرواية، لجودتها الفنية بالمقارنة مع كثير من نظيراتها من جهة، ولما تمثله من تدوين جريء لبعض الأحداث التاريخية مثل "مظاهرة الشباب" التي سبق أن كتب عنها غير المؤلف، من جهة أخرى.
إلا أن ما يعنيني هنا هو تسجيل ملاحظاتي الفنية على العمل، وكما قدّمت بعوامل قوة الرواية، فإن لي ملاحظات أرى أنها تفسر جانب الضعف فيها، والتي أرى أن أبرزها تتعلق بالحوار المتقطع بين مدير المدرسة الثانوية –الأستاذ فهد الحمود-، ومدرس اللغة الإنجليزية –كاكي-، فقد جاء معظم هذا الحوار ذا طبيعة مسرحية ناشزة عن خيار المؤلف المبدع في باقي النص، فضلاً عن أنه لم يكن يتسم بحد أدنى من الجدلية، بل كان في الغالب حديث شخصيتين تقدمان للقارئ وجهة نظر واحدة، ولا أظنني أبالغ إن قلت إن القارئ في بعض جمل الحوار لا يعود مهتماً بالتمييز بين المتحاورين لشدة تطابق رأييهما، ولم يسلم من هذا إلا الجزء اليسير من الحوار الذي روى لنا فيه مدير المدرسة قصة الأستاذ "دانيال" ومصيره.
وليست الملاحظة الأهم هنا تطابق الرأي، أو استخدام الحوار من حيث المبدأ، بل هي في السؤال الفني عن حاجة الرواية إلى هذا الحوار الذي يشبه مقالة تمت صياغتها على صورة حوارية، وما زاد الأمر سوءا هو أن المؤلف أثقل هذا الحوار في كثير من مواضعه بإعلان المواقف، وطرح التحليلات، الأمر الذي أخل بقدرته على التزام شرط الإيحاء على امتداد الرواية، فقد ضعف عن الوفاء بهذا الشرط في بعض مواضعها، وليس فقط في الحوار المشار إليه، فسجل رأيه، واستنتاجه، وموقفه من بعض الشخصيات على سبيل التزكية، أو المؤاخذة، على لسان الراوي، ومحل الإخفاق هنا هو حضور الذات العاقلة ضمن العمل الفني، والعمل الفني حلم يتواطأ المبدع والمتلقي على التعامل معه بتعليق الذات العاقلة، والانغماس في فعل الإبداع، والتلقي، وشرط الإيحاء –عندي على الأقل- شرط أساس للعمل الفني، وللمتلقي أن يستنبط من الرواية، دون أن يخذله المؤلف بوقفات تحليلية يسجل فيها استنتاجاته، في ممارسة تخرج العمل من المربع الفني، إلى التعليمي، وقد بلغ هذا الإخفاق ذروته فيما سمي "كلمة الراوي" في مطلع الكتاب، التي اختار الناشر أن يضعها على الغلاف الأخير –أيضاً-، والتي نصت على أن من واجب الذين يلتمسون خيوط الحاضر ومشارف المستقبل أن يؤسسوا مستقبلهم انطلاقاً من هذا الكتاب الذي يكشف لهم بدايتهم الحقيقية، وفي تقديري كانت هذه أكبر سقطة شوهت الرواية الأخاذة، وليت المؤلف كف عن هذه الوصائية الفجة، وأحسن الظن بقدرة القارئ على الفهم، وقدرته على الاختيار.
-6-
في المحصلة، وبالنسبة لي، أرى أن "الهدام" من الروايات السعودية القليلة التي قرأتها أخيرا، وأملك الشجاعة لأنصح غيري بأن يقرأها، وبوصفها محاولة أولى فهذا يشجع على التفاؤل بكتابات أعمق، وأجمل، لموسى النقيدان، وربما تلفت "الهدام" نظر مبدعين آخرين إلى أن تاريخ البلدات النجدية يمكن أن يكون مصدراً عظيماً غير مستغل في الكتابة الروائية.

الأكثر قراءة