الغزو "القروي" التركي !
جرياً على طريقة الوصف التي اعتدنا تداولها في مجتمعنا منذ نهاية سبعينيات القرن المنصرم لأي عمل فني قادم من الخارج اخترت عنوان هذا المقال مبتدئاً بكلمة (غزو), ولا أظن أنني بحاجة إلى أن أتحدث عن مدى جماهيرية هذه الكلمة في الخلفية الثقافية للمجتمع العربي بشكل عام والمجتمع السعودي بشكل خاص.
لكن وقبل أن أتحدث عن غزوة عام 2008 التي شنها القرويون الأتراك على ضمير ومشاعر وعقل الفرد العربي عبر أحصنة طروادة الحديثة (شاشات الفضائيات), يجب أن أشير إلى أن هناك جوانب إيجابية وسلبية على حد سواء لجميع الغزوات العصرية بعكس عمليات الغزو الهمجية في عصور الظلام التي لم تكن تخلف وراءها إلا التخريب والموت والدمار, وكمثال على الجوانب المضيئة لبعض عمليات الغزو يمكننا تذكر أن الحملة العسكرية الفرنسية بقيادة الجنرال نابليون على مصر حملت معها العلماء والمهندسين والجغرافيين بعد الثورة الفرنسية التنويرية إلى البلاد العربية, بل إنها حملت معها لجنة من العلماء عرفت باسم لجنة العلوم والفنون وقامت بجمع كل حروف الطباعة العربية الموجودة في باريس لكي يتم تزويد الحملة بمطبعة خاصة بها.
ومثلت تلك المطبعة فيما بعد بدايات تاريخ الطباعة والصحافة في العالم العربي, كما مثلت لجنة العلوم والفنون المصاحبة للحملة بذرة التنوير في مصر بعد أن رزح الشعب العربي لقرون تحت حكم الضرائب والإتاوات العثماني, وتحت سياط الجهل والولاء المطلق للأستانة.
وعودا إلى موضوع الغزو (القروي) التركي الفضائي للعرب في وقتنا الحاضر -وركزوا على كلمة (القروي) فهي أساس الموضوع- أود أن أوضح أنني ومنذ بدأت شاشات الفضائيات العربية في بث المسلسلات التركية المدبلجة مطلع هذه السنة, وأنا أتابع باهتمام تداعياتها على الناس وأتابع أيضاً غرائب الأخبار والمقالات التي تحفل بها وسائل الإعلام عن تلك التداعيات, فهذا خبر عن زوج طلق زوجته بسبب إعجابها بالشاب التركي الوسيم (مهند),وذاك خبر عن فنانة عربية دفعت للشاب التركي كل ما تملك من أجل أن يظهر معها في الفيديو كليب الجديد, وبينهما خبر عن ارتفاع معدل السياح الخليجيين المتجهين لتركيا مع بعض المقالات التي تتحدث في مجملها عن خطورة الأفكار والعادات التي تسوقها تلك المسلسلات للمجتمعات العربية, لكن الذي لم يتطرق إليه أحد هو نوعية هذه المسلسلات, ومدى علاقتها بالمجتمع التركي اليوم!
إن أهم ملاحظة يمكن لأي منا التنبه لها بمجرد مشاهدته للمسلسل المعروض حالياً على أهم فضائياتنا العربية, تتمثل في كون ذلك المسلسل يصور في قرية تركية تجاوزها الزمن منذ قرون ناقلاً ثقافة البيئة القروية هناك التي لا تمثل بأي حال من الأحوال ثقافة الشعب التركي الحديث العصري, أو شعب (تركيا الفتاة) التي تحاول الانضمام للاتحاد الأوربي, حيث تقوم الفكرة الأساسية لذلك المسلسل على ظاهرة (جرائم الشرف), وهي ظاهرة معدومة في تركيا اليوم ولا وجود لها إلا في بعض القرى النائية المجاورة للحدود العربية, وهذا يعني أنها لا تمثل الثقافة الاجتماعية التركية.
إنني أتساءل بحق عن السبب الذي جعل فضائياتنا تحرص على عرض مثل هذه المسلسلات دون غيرها, هل هو اعتقادها بأن المجتمعات العربية في مجملها اليوم عبارة عن مجموعات من (القرويين) المتخلفين الذين لا تناسب ذوائقهم الفنية سوى هذه الأفكار البالية, أم أنها لم تجد في المسلسلات التركية العصرية ما يمكن عرضه على الفرد العربي الذي يُنظر إليه كـ(قاصر) بحاجة إلى من يأخذ بيده ويرشده، خصوصاً من الناحيتين الأخلاقية والثقافية.. من منكم يملك الإجابة؟!