صيرفة إسلامية أم صيرفة الحيل أم صيرفة .. ؟ (1 من 2)

[email protected]

تنحرف الأمم عن منهج الدين الحق بإشفاق مشفق أو استحسان مستحسن، كالزهاد والعباد واضعي أحاديث الرقائق. وكاحتياط بعض الفقهاء في حيض المرأة في وضعهم أغلالا على إماء الله في الصلاة والصيام ما أنزل الله بها من سلطان، والتمثيل في هذا الباب يطول، ومَن أراد أن يرى العجب العجاب والمضحكات المبكيات فليرجع إلى كتب فقه القرون الوسطى. والمتأمل في هذه الكتب يتضح له حقيقة ما قرره إمام التوحيد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، حيث قال، وأكثر ما في كتب الحنابلة كالإقناع والمنتهى ليس من مذهب الإمام أحمد بن حنبل عرف هذا من عرفه وجهل هذا من جهله، أو كما قال رحمه الله تعالى. وما كان ذاك ليكون إلا أن شيوخ تلك الفترة قدموا آراء علمائهم ومشايخهم والرأي والسياسة والهوى على النص من كتاب الله وسنة نبيه، وصدق الله "ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا".
قد يجتهد مجتهد من أئمة الدين وجهابذة العلم فيحالفه التوفيق والتسديد في وقته، ثم يحرف الأمة بعد ذلك عن موافقة الكتاب والسُّنة تمسكها بذلك الاجتهاد من ذلك الإمام المجتهد رغم اختلاف معطيات الفتوى التي بُنيت عليها وتغيرها وذلك لمكانة المجتهد وقدره. فمن ذلك اجتهاد الفاروق عمر، رضي الله عنه، في إمضاء وقوع الطلاق الثلاث في مجلس واحد (أي وقوع البينونة الكبرى). وقد كان اجتهاد الفاروق، رضي الله عنه، وقتيا بسبب تهاون الناس في التلفظ بالطلاق الثلاث في زمنه فأمضاه عليهم تأديبا لهم وردعا عن التلاعب بحدود الله. فتمسكت الأمة جميعها من بعده، رضي الله عنه، شرقها وغربها، شمالها وجنوبها، عربهم وعجمهم، على اختلاف مذاهب علمائها وجلالة قدرهم وتنوع مدارسهم الفكرية لقرون طويلة بما انتهى إليه اجتهاد الفاروق، رضي الله عنه، دون النظر إلى إمكانية تغير المعطيات والأسباب التي بنيت عليها فتوى الفاروق، رضي الله عنه. فحدث الخلل في هذا الباب من الفقه فوقع الناس في حرج وضيق شديد فنشأ نتيجة ذلك أن ازدهر فقه التحليل بالتيوس المستعارة أو التيوس المحللة نتيجة لتحريم ما لم يحرمه الله ورسوله حتى جدد الله دينه بشيخ الإسلام ومجدد دين الأمة تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم (ابن تيمية)، فأعلنها صراحة بعدم وقوع الطلاق في مجلس واحد مخالفا في ذلك إجماع الأمة، فلا اجتهاد مقابل نص. وقد واجه شيخ الإسلام، رحمه الله، أذى كثيرا في ذلك, فصبر واتقى فكانت له العاقبة الحسنى.
كم من بيوت هدمت وكم من شمل أٌسر فرق وكم حُرّم حلال وحلل حرام بالإصرار على اجتهاد مضى زمنه وتغيرت معطياته. كم سُطر في كتب الفقه من تفاهات فنون استخدام التيوس المستعارة أو المحللة حتى تصدى لها شيخ الإسلام بكتابه الشهير "بيان الدليل في بطلان التحليل".
وفي زماننا هذا ابتلينا بأمر مشابه من تحريم ما لم يُحرِّمه الله ورسوله ثم استحلاله بالحيل الساذجة المكلفة على الأمة ولكن على مقياس أوسع وخطر وضرر على الأمة أعظم وأكبر.
صيرفة الحيل أو صيرفة التيوس المستعارة أو المحللة التي يطلق عليها تضليلا وتدليسا وتخويفا وإرهابا للمسلمين بالصيرفة "الإسلامية" هي نتاج التمسك باجتهاد فقهي كان موفقا في زمنه قد بُني على مقدمات ومعطيات وحيثيات لم تعد موجودة واحتيط فيه من محظور لم يعد قائما.
فمَن من هذا الأمة سيكون مجدد الدين لهذا العصر؟ مَن سيقف موقف الشجاع المتبع الحق للكتاب والسنة كموقف شيخ الإسلام، لا يخاف لومة لائم، ويواجه ما ران على قلوب الناس عبر عقود من الزمن من فهم خاطئ لهذه المسألة؟ إن التنبؤ بردود الأفعال من أخطر الأمور ولكنني أتوكل على الله وأحتسب وأعتقد أن أقرب الأمة إلى ذلك ـ والله أعلم ـ هو العالم الإمام الرباني الشيخ صالح اللحيدان، وذلك حسب استقرائي منهجه الديني ومواقفه الشرعية، حفظه الله. وهذا المقال وسلسلة المقالات من بعده لهي طلب إلى الشيخ، حفظه الله، أرفعه لإعادة البحث في المسألة لعظم ضرر وخطورة نتائجها على المسلمين وعلى الدين بعد أن تغيرت المعطيات والمفاهيم التي بُنيت عليها أقوال العلماء الذين قالوا بما هو مشهور بين الناس الآن.
وقبل أن أنطلق في الخوض في هذا الموضوع المهم والخطير لعقيدتنا واقتصادنا، يجب أن أؤصل اسم هذه الصيرفة التي يطلقون عليها الصيرفة الإسلامية. الصيرفة الإسلامية ليست بالاقتصاد الإسلامي. الاقتصاد الإسلامي أوسع وأشمل، فيدخل فيه الزكاة والبيوع, المجتمع الاقتصادي الإسلامي على تفصيل ليس هذا مكانه. الصيرفة تعنى غالبا بالتمويل. وقد قامت على فتوى بعض العلماء في جريان الربا في الأوراق النقدية في وقت مضى قد تغيرت فيه حقيقتها تماما الآن. فأكثر ما يشبه حالتها من تاريخ الفقه الإسلامي هو إيقاع الطلاق الثلاث في عهد عمر، ووقوع الناس في حرج شديد بعد ذلك، فاجتهد كثير من شيوخ تلك الفترة في إيجاد حل لتحليل المرأة إلى زوجها وباستخدام أداة لذلك هو التيس المستعار أو المحلل، وهي تسمية شرعية وردت في السُّنة. والصيرفة الإسلامية استخدمت أدوات أدخلتها بين المتمول والممول, بيع عينة غالبا وتورقا غير كامل الأركان نادرا. (وفي المقال القادم سأسرد نص تشخيص الشيخ محمد بن إبراهيم، رحمه الله، للعينة، التي هي مطابقة تماما الآن لهذه الصيرفة، وتحذيره منها وتعقيب الملك عبد العزيز، رحمه الله، على ذلك). هذه الأدوات تسمى حريرة (أي قماشا) أو حديدا مستعارا أو سهما محللا أو صكا إلى آخر ذلك. لذا فالاسم الشرعي لهذه الصيرفة هي صيرفة الحيل أو صيرفة التيوس المحللة أو المستعارة ولا تسمى أبدا الصيرفة الإسلامية. (يتبع)

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي