التضخم يقصم العملة الخليجية قبيل مولدها.. وترقب لاجتماع سبتمبر
يتفق الكثير من المراقبين إن لم نقل كلهم مع ما ذهبت إليه تصريحات المسؤولين الخليجيين من أن تنفيذ الوحدة النقدية الخليجية في موعدها يجابه بتحديات عديدة في الوقت الحاضر، أبرزها معدلات التضخم، حيث تتباين في الدول الست بين 3.83 في المائة وأكثر من 12.8 في المائة. وسبق للمسؤولين السعوديين أن صرحوا بأن معدلات التضخم ارتفعت إلى أعلى مستوى له في سبع سنوات وتجاوزت 10 في المائة، وفي قطر 12.8 في المائة، كما ارتفعت في عُمان إلى أعلى مستوى في عامين ونصف بنسبة 5. 9 في المائة في حزيران (يونيو). وأظهرت بيانات كويتية أن التضخم السنوي انخفض إلى 4.36 في المائة في حزيران (يونيو). وفي الإمارات قالت وزارة الاقتصاد إن التضخم تجاوز الـ 10 في المائة.
المحللون والخبراء الاقتصاديون الذي يحاولون الذهاب أبعد مما ينبئ به الوضع الراهن من تحديات، لا يخفون انتقادهم بأن ما يقف وراء تأجيل الوحدة النقدية الخليجية هو بطء تحرك دول المجلس نحو تحقيق هذا الهدف. فقد شارفنا على بلوغ عام 2010 والسلطة النقدية الموحدة لم تنشأ بعد. وبالمقارنة بالتجربة الأوروبية، نرى أن اتفاقية ماستريخت وضعت بالفعل مدى زمنيا قدره عشر سنوات لبلوغ الوحدة النقدية الأوروبية، وهو المدى الزمني نفسه الذي وضعته دول المجلس منذ أن اتفقت على البرنامج الزمني للوحدة النقدية في قمة مسقط عام 2001. إلا أن من الجدير ذكره هنا - والحديث لهؤلاء المحللين - استعراض المراحل التي قطعها الاتحاد الأوروبي خلال عشر سنوات.
تجربة الاتحاد الأوروبي
المرحلة الأولى: بدأت في تموز (يوليو) 1990 (أي قبل اتفاقية ماستريخت)، وتضمنت تكملة التعاون والتنسيق الاقتصادي للتوصل إلى السوق المشتركة بنهاية عام 1992، والمشاركة الكاملة لجميع عملات دول المجموعة في النطاق - الهامش - الضيق لآلية سعر الصرف.
المرحلة الثانية: وهي المرحلة التي بدأت في عام 1994، وتم فيها إنشاء أو تكوين نظام البنوك المركزية ألأوروبية ESCB، حيث تم فيها التحول من مجرد التنسيق بين السياسات النقدية المستقلة لكل دولة من دول المجموعة إلى إيجاد صيغة لتطبيق سياسة نقدية موحدة، وكذلك الاستمرار في العمل على تقليص هوامش تحرك أسعار الصرف بين عملات دول المجموعة، وهنا فرض على كل دول المجموعة اتباع سياسات اقتصادية تهدف إلى تحقيق التقارب بين معدلات الأداء الاقتصادي، خصوصاً فيما يتعلق بالمؤشرات الأربعة، وهي: معدل التضخم، نسبة عجز الموازنة العامة إلى الناتج المحلي الإجمالي، نسبة الدين الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي وأسعار الفائدة طويلة الأجل.
المرحلة الثالثة: وبدأت ما بين 1998 وبداية 1999 وتم فيها تحديد أسعار صرف دول المجموعة بشكل نهائي غير قابل للتغير، على أن يتم التعامل بعد ذلك بعملة واحدة هي (اليورو)، ومن الجدير بالذكر أن المملكة المتحدة احتفظت لنفسها بحق عدم الانضمام إلى هذه المرحلة (الوحدة النقدية الكاملة). - أما الفترة ما بين 1999 و2002 فهي فترة انتقالية تم التعامل فيها باليورو، بجانب العملات الوطنية مع الانسحاب التدريجي لتلك العملات لصالح تعميم استخدام اليوروEURO.
معاهدة ماستريخت
وحددت معاهدة ماستريخت معايير يجب احترامها في آن واحد من الدول الراغبة في الانتقال إلى العملة الموحدة, هذه المعايير تدعى معايير التقارب التي هي:
استقرار أسعار الصرف: يجب أن تكون تقلبات العملة في خلال سنتين متتاليتين على الأقل على نطاق التقلبات الطبيعية لنظم الصرف الأوروبي.
استقرار الأسعار: يجب ألا يتعدى معدل التضخم 1.5 في المائة عن متوسط معدلات التضخم لأقل ثلاث دول أعضاء تضخما.
عجز الموازنة: يجب ألا يزيد معدل العجز في الموازنة عن 3 في المائة من الناتج الإجمالي المحلي.
الدين العام: يجب ألا يزيد حجم الدين العام على 60 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي.
أسعار الفائدة طويلة الأجل: يجب ألا تتجاوز 2 في المائة عن متوسط معدل أسعار الفائدة الطويلة الأجل في ثلاث دول التي تشهد أقل معدلات التضخم.
المرحلة الثانية هي المرحلة التي تم بموجبها إقامة البنك المركزي الأوروبي الموحد عام 1994 أي قبل ثماني سنوات من الانطلاقة الفعلية لليورو، وقد تولى هذا البنك وطوال ست إلى ثماني سنوات الإشراف على توحيد سياسات التقارب المذكورة أعلاه، كما فرض على كل دول الاتحاد اتباع سياسات اقتصادية تهدف إلى تحقيق التقارب بين معدلات الأداء الاقتصادي، خصوصاً فيما يتعلق بالمؤشرات الأربعة.
فكيف إذن لدول المجلس أن تبلغ الوحدة النقدية عام 2010 وهي لم تؤسس بعد البنك المركزي الخليجي عام 2008؟ وعلى افتراض تأسيس البنك المركزي الخليجي عام 2009، فإنه بحاجة إلى أربع سنوات على الأقل ليمارس كامل سياساته على الأرض بشكل فاعل، وهذا يعني أن الوحدة النقدية الخليجية قد تتأجل إلى عام 2013 على أقل تقدير؟
وستزيد لائحة المهام المطلوب تنفيذها قبل عام 2010 إذا ما أخذنا في الاعتبار التباين الحاصل بين دول مجلس التعاون الخليجي بشأن معايير الوحدة النقدية، وشكل السلطة النقدية المشتركة، ومهامها الرئيسية المتمثلة في رسم وتنفيذ السياسة النقدية وسياسة سعر الصرف ووضع مواصفات العملة الموحدة والتعليمات المتعلقة بإصدارها وإدارة احتياطياتها.
كما تطول نقاط التباين التشريعات اللازمة في المجال النقدي، وصلاحيات البنك المركزي الخليجي، وإنشاء هيئة قضائية كإحدى منظمات مجلس التعاون تسمى "محكمة الاتحاد النقدي". ويشير الخبراء إلى أن أهم التحديات المقبلة التي قد تواجه التفعيل الكامل للسوق الخليجية المشتركة هو إنجاز مشروع توحيد العملة بحلول عام 2010، خاصة بعد الخطوات التي قامت بها كل من الكويت وسلطنة عُمان، على صعيد فك الربط بالدولار بالنسبة للأولى، وإعلان الانسحاب من الوحدة النقدية لعدم القدرة على الوفاء بمستلزماتها في الوقت المحدد بالنسبة للثانية.
المهام والتعقيدات المستقبلية
كما ستزيد لائحة المهام والتعقيدات بصورة أكبر أيضا إذا ما نظرنا إلى مؤشرات التقارب نظرة بعيدة المدى. وكانت معايير الوحدة النقدية الخليجية المتفق عليها تتمثل في الآتي: ألا تتجاوز نسبة العجز في الموازنة 3 في المائة، وألا تتجاوز نسبة الدين العام إلى إجمالي الناتج المحلي 60 في المائة، إلى جانب عدم تجاوز نسبة التضخم 2 في المائة.، كذلك تبرز قضية التضخم كتحد آخر أمام تفعيل أداء السوق الخليجية المشتركة، ويرتبط التضخم في الخليج بمؤثرات محلية وخارجية، تتمثل الأخيرة في الربط بالدولار المتراجع واضطرار مصارف المنطقة المركزية إلى خفض فوائدها تماشيا مع قرارات "الاحتياطي المركزي" الأمريكي. هذا فضلا عن تحدي عدم التطبيق الكامل للاتحاد الجمركي، رغم أنه مرحلة سابقة عن مرحلة السوق المشتركة، وتتمثل أبرز النقاط العالقة في ملف الاتحاد الجمركي الخليجي في آلية تحصيل ونسب الإيرادات الجمركية بين دول الخليج.
فوفقا لدراسة أعدها بنك ستاندر شارترد، فإن دول مجلس التعاون الخليجي اتفقت على تبني معايير الوحدة الأوروبية الخمسة السابقة نفسها، حسب اتفاقية ماسترخيت. وفي حين اعتبرت اتفاقية ماسترخيت هذه المعايير شرطا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، فإنه في حالة الدول الخليجية اعتبرت معايير لازمة للتوصل إلى الوحدة النقدية عام 2010. وأوضحت الدراسة أن ارتفاع أسعار النفط خلال السنوات الثلاث الماضية، مكن جميع الدول الخليجية الست من الالتزام بالمعايير الأربعة الأولى في نهاية عام 2005. بينما في عام 2004 كان المعيار الثالث بالنسبة للبحرين أقل من النسبة المستهدفة بقليل (الاحتياطيات تعادل 3.8 مرة الواردات)، والمعيار الثاني لدى السعودية يتجاوز قليلا النسبة المستهدفة حيث كانت نسبته 65 في المائة، إلا أنه انخفض إلى 41 في المائة عام 2005.
أما بالنسبة للمعيار الخامس الخاص بالتضخم، فقد مثل بعض التحدي خاصة في البحرين، قطر، والإمارات، حيث زاد في البحرين معدل التضخم بنسبة بسيطة، بينما اتسم الاقتصادان القطري والإماراتي بارتفاع معدلات التضخم فيهما طوال العقد الماضي. ومع ذلك، لم يكن لهذا الارتفاع تأثير واضح في القدرة التنافسية للصادرات من خلال التأثير في أسعار الصرف، كون معظم الصادرات تتمثل في النفط (60 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي). إلا أن هذا المعيار زاد تحديا خلال العامين الماضيين مع تفاوت ملحوظ في معدلات التضخم في دول التعاون.
معايير التوصل للوحدة النقدية
ويضيف خبراء أنه حتى في حالة إمكانية تحقيق معايير التوصل والدخول في وحدة نقدية خليجية عام 2010 في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة، فإن إضفاء الاستقرار طويل الأجل على هذه الوحدة يتطلب إعادة النظر في بعض معايير الوحدة النقدية المشتقة من التجربة الأوروبية، نظرا لاختلاف الأوضاع والهياكل الاقتصادية للبلدان في كلا المجموعتين. ففي حالة الدول الخليجية الست، فإن الاستقرار طويل الأجل للوحدة النقدية سيعتمد على ثلاثة عوامل رئيسة، أولا الانخفاض التدريجي في الإيرادات النفطية، حيث من المعروف أن ثلاث دول خليجية هي: البحرين، قطر، وسلطنة عمان يتوقع نضوب مواردها النفطية خلال العقدين المقبلين. غير أنه في حالة قطر ستعوض ذلك عن طريق إنتاج الغاز الذي يتوقع أن تكفي احتياطياته لمدة 300 سنة وفقا لمعدلات الاستهلاك الحالية. وثانيا عملية التنويع الاقتصادي وخفض الاعتماد الكبير على الإيرادات النفطية، حيث يلاحظ هنا أيضا تفاوت درجة نجاح الدول الست في تحقيق هذا الهدف. وثالثا، الضغوط المتعلقة بالنمو السكاني وأسواق العمل، حيث تعاني بعض الدول الخليجية ضغوطا حادة فيما يخص توفير فرص العمل للمواطنين بينما لا تزال هذه الضغوط في بدايتها في دول أخرى. وتبلغ نسبة المواطنين الخليجيين ما دون سن العشرين نحو 50 في المائة من السكان، بينما يتوقع نمو حجم القوى العاملة بنسبة 3 في المائة حتى عام 2020. لذلك، فإن معدلات البطالة في بعض هذه الدولة بدأت منذ الآن في الارتفاع إلى مستويات مقلقة.
ونظر لهذه الأوضاع، فإن دول الخليج الست سوف تواجه تحدي التعويض عن الإيرادات النفطية في أزمنة متفاوتة بعضها خلال 20 عاما والبعض الآخر مثل الإمارات خلال 100 عام. كما أن زيادة مساهمة العمالة الوطنية في القوى العاملة سيكون له مردود إيجابي على الاقتصاد ككل، إلا أنه سيقلص من مرونة تكيف هذه الأسواق من حيث الأجور في حالة تراجع النشاط الاقتصادي. كما أن معدلات الصرف ستتأثر بدورها من هذه الفروق في الأداء الاقتصادي.
ونتيجة لهذه المعطيات، توضح الدراسة أن معايير الوحدة النقدية الأوروبية غير دقيقة في حالة الدول الخليجية الست، خاصة معيار نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي الذي يفترض ألا يتجاوز نسبة 60 في المائة.
لذلك، تقترح الدراسة أن يتم تبني معايير مالية للوحدة النقدية تمثل بشكل أدق العوامل الأساسية المتحكمة في استقرار الأوضاع المالية في دول التعاون الست، وتساعدها في المحصلة النهائية على الاستعداد التدريجي لمرحلة نضوب النفط والإيرادات المتأتية منه. ويمكن تحقيق ذلك من خلال تبني معيار العجز المالي غير النفطي، وهو يعني الرصيد المالي الكلي مطروح منه الإيرادات النفطية. وبالتالي، فإن على السياسة المالية لدى هذه الدول أن تعمل على تحقيق نسبة من العجز المالي غير النفطي التي تسمح بتراكم الموجودات المالية, وبحيث يمول العائد المتأتي من هذه الموجودات العجز المالي غير النفطي المستهدف عندما يحين موعد نضوب الموارد المتأتية من النفط والغاز. وهذا يضمن بدوره توزيع مدة استهلاك الثروة النفطية على الأجيال بصورة عادلة، كما يضمن لدول المجلس أن كل دولة عضو قد ضمنت الاستقرار لمواردها المالية على المدى الطويل. إن تقدير حجم العجز المالي غير النفطي لكل دولة خليجية سيعتمد على حساب حجم الثروات النفطية لدى كل منها، وتقدير معدلات النمو السكاني المستقبلية.
إن الاتحاد الاقتصادي والنقدي هو فرصة لبلدان لا يزيد عدد سكانها على 36 مليون نسمة، فيما يبلغ إجمالي ناتجها المحلي أكثر من 600 مليار دولار، وحصة الفرد من الناتج المحلي فيها تزيد على 17 ألف دولار. وهي تنتج 23 في المائة من النفط العالمي، إضافة إلى 8 في المائة من إنتاج الغاز، وتختزن 40 في المائة من مخزون النفط العالمي و23 في المائة من احتياطي الغاز، وقد حققت مجتمعة فائضاً في حساباتها الجارية سنة 2007 ناهز 200 مليار دولار، وبلغت احتياطياتها الرسمية الخارجية أكثر من تريليون دولار، حيث إنه ما زال أمام هذه الدول مشوار طويل كبير لتحقيق أهداف بعيدة، عبر الوحدة النقدية والاقتصادية. إذ إنها، على رغم ما تتمتع به من قوّة وثروات طبيعية، لا تمثل أكثر من 1.5 في المائة من الناتج المحلي العالمي، وحصّتها في التجارة العالمية لا تتناسب مع قدراتها وإمكاناتها. لذلك، على الرغم مما ذكر من تحديات ومهام، لا يوجد خيار آخر أمام دول المجلس سوى المضي قدما في إقامة الوحدة النقدية الخليجية حتى ولو تطلب ذلك تأجيلها لبضع سنوات، ولكن المطلوب وضع برامج زمنية أكثر صرامة وإجماع على أن يتم الالتزام بها بصورة جماعية لا رجعة فيها. وتترقب الأوساط الاقتصادية والمالية في المنطقة والعالم أيضاً الاجتماع الذي سيعقده محافظو البنوك المركزية في أيلول (سبتمبر) المقبل لظهور إشارة جديدة لموعد العملة.