الجمعة, 30 مايو 2025 | 2 ذو الحِجّةِ 1446


عرس الصحراء .. تحت النجوم كلها وليس 5

هم في فنادق المليون نجمة، بل قل في فنادق النجوم كلها، وليس خمسا كما في فنادق المدن الفارهة والمترعة بالكسل والخمول، والهواء البارد ومفردات الترحيب المملة التي تتردد في حفلات الزفاف، التي لا يكسر سوى دعوة الحضور إلى صالة طعام جهزت منذ عدة ساعات.
هنا في وسط الصحراء، تتعالي أصوات الفرح الأصلي، بينما تتصاعد روائح الأطعمة مهللة بكرم عربي أصيل بضيوف الحفلة. البساطة هي كل ما يملكة هؤلاء البسطاء. الضيوف الذين يحضرون من أماكن بعيدة يعتبرونها فرصة لا تتكرر، أما أهل العريس فيعتبرونها فرحة نادرة تتمثل في زواج الابن وحضور الأهل والأصدقاء.
فريق "الاقتصادية" من الجوف، كان على الموعد فحضور حلفة زفاف وسط رمال النفود الكبير، قطع لها عدة مئات من الكيلو مترات. حضر عصرا ورصد كل شيء كلمة وصورة فخرج بالتقرير التالي:

مواسم خاصة

تعتبر مواسم الزواج حالة خاصة تتطلب التحضير والإعداد لها منذ وقت مبكر , فالكل في هذه المواسم مستعد, حتى الدعاية والتسويق تختلف في هذه مواسم عن غيرها فالعروض مثيرة والتنافس حاد والإعلانات عن الخصومات مغرية للشراء , كل هذا لأجل استقطاب العريس أو حتى العروس , فمحال الآثات تقدم عروضها وقاعات الأفراح تتغنى بأحسن خدماتها , وصالونات التجميل للجنسين تقدم خلطاتها (السرية) والسحرية للزوجين .

زواج الصحراء

إن ما سبق ذكره قطعا لا ينطبق على زواجات أبناء الصحراء فأبسط ما نقول عنها حفلات بسيطة دون تكلف تشعر من خلالها ببساطة الحياة وقلة التكاليف, فالكل هناك بمقدوره الزواج وخلال أيام معدودة فالحال هناك لا يتطلب حجوزات مسبقة ولا استعدادا يمتد لأشهر, وما يزيد الحال بساطة أنه لا يتطلب من الزوج البحث عن شركات التقسيط لتوفير جزء من مستلزمات زواجه ذات التكلفة الباهظة, في حين لم تعد المائة ألف ريال كافية لإقامة حفلة زواج داخل المدينة التي حاصرتها العروض المغرية وقاعات خمس النجوم.

مليون نجمة

زواج ابن الصحراء هو زواج المليون نجمة, ليلة مقمرة ونجوم تتلألأ وبساطة يحدوها الأمل فلا يعتبرون الزواج (العرس) هماً كما الحال في المدينة فهناك حالة من الاختلاف فوجع الضرس أكثر هماً من العرس في الصحراء على عكس ما يقال في المدينة (وجع الضرس ولاهم العرس).
العروس هناك لا تعرف ما يسمى بالكوافيرات وصالونات التجميل فجمالها وأدواته مستمدة من الطبيعة, نعم إنها في قلب الصحراء تحلم أن تكون زوجة تنعم برجل صالح يداري شئون بيته البسيطة سكنهم خيمة بناؤها لا يحتمل ساعة من الزمان وهي بمثابة الشقة وهي للنوم فقط, الخيمة هنا أو غرفة العروسين لم تعج برائحة الدهان من تعتيق وترخيم ولم يعج سقفها بالديكورات الجبسية أو الخشبية, هي مجرد خيمة مزخرفة من الداخل ببعض القماش والمنسوجات اليدوية.
من هنا ستأخذكم "الاقتصادية" لحضور حفل زواج من قلب الصحراء وتحت النجوم بلمحة تقريرية مفصلة لنعود إلى الوراء قليلا لمعرفة تفاصيل ودهاليز زواجات أبناء البادية في قرية (أطناب) في منطقة النفود بين منطقتي الجوف وحائل في شمال السعودية، تحديدا هو زواج الشاب أحمد ناصر السلاف الذي رحب برصد كل كبيرة وصغيرة في زواجه منذ قدوم الضيوف وحتى غرفة العريس.

عين الشمس

منذ أن تغمض الشمس عينها استعدادا للمغيب ترى أهل الحفل غارقين بالعمل والاستعداد لاستقبال الضيوف الذين يتوافدون قبيل صلاة العشاء, لا شيء غريبا في العمل فأبناء البادية عرف عنهم التكاتف والتلاحم في كل حالاتهم, إلا أن الغريب سعودة الأفراح هناك فلم تلمح أبصارنا أحدا من العمالة الوافدة.

موقع الحفل

ما إن تصل موقع الحفل وما إن تضع قدميك على رمال النفود إلا والأطفال الصغار يتسابقون إليك حاملين أقداحا مليئة بالماء وآخرون يحملون مباخر العود التي تعانقك بدخانها المعطر من بعيد، كل من في ساحة الزواج يقفون للسلام عليك، وعاء التمر وآخر مليء بالسمن هو أول ما يقدم لك بعد أن تأخذ موقعك في الحفل، دلتين من القهوة الأولى مبهرة بالهيل والزعفران والأخرى بالعود أيهما تفضل، الشاي هو آخر الحاضرين فلبن الشاه يقدم بعد القهوة، نكهات متعددة يجب أن يلامسها لسانك قبل أن تقوم مع الضيوف لتناول طعام العشاء.

أبناء وأبناء

من الأشياء اللافتة هناك أن كل والد يأتي وخلفه أولاده ومن الجميل أنه حينما يتجاوز أفراد الأسرة ثلاثة أشخاص تجدهم كالطابور العسكري لا تميزهم عن بعضهم الرتبة العسكرية وإنما العمر، فالأب أولهم وأصغر الأبناء آخرهم يتقدمون بانتظام، القادم لساحة الحفل لا يذهب للسلام على عريس الحفل مباشرة كما يفعل البعض بل يبدأ بالشخص الذي يقف على يمينه مع أيٍ من أبواب الحفل ثم يدور على الضيوف حتى يصل إلى عريس الحفل، كل شيء في زواج البادية منظم وكأنهم خلية من النحل لا ازدواجية في المهام ولا قصور في الخدمات، صالة الطعام هي سفرة طويلة تتجاوز العشرين مترا طولاً والخمسة أمتار عرضاً صحون الطعام ليست ما يسميه البعض (التبسي) بل يسمونها هناك (الصينية) وهي تتسع لأكثر من عشرة أشخاص وتتميز بوجود قاعدة أرضية مرتفعة عن الأرض ليصبح الطعام على مستوى صدر الضيف وفي متناول يده، هم يعتقدون أنه يجب ألا يحني الضيف رأسه من أجل الحصول على لقمته، والد العريس أو راعي الحفل لا يكاد يجلس والضيوف يأكلون، يتفقد كل صينية خشية نقص في المقبلات أو الماء وغيره، ينادي بعد كل برهة من الوقت بوجبة الغداء والعشاء لليوم التالي ويتوسل لمن قدموا من مسافات بعيدة المكوث لديه حتى اليوم التالي.

لا قيام قبل الكبار

رغم كثرة الضيوف إلا أن الجميع متفق بفطرة البادية ألا يقوم أحد من سفرة الطعام قبل أن يقوم أكبرهم سناً، بعد العشاء يعود الجميع لأماكنهم تدار أقداح المياه ودلال القهوة وأباريق الشاي من جديد بعد أن تم تجديدها أثناء تناول الضيوف طعام العشاء.
يلتم رجال البادية في منتصف ساحة الحفل ليأدوا رقصة العرضة، رغم أنها من دون إيقاعات أو طبول لكن تناغم الأصوات منسجم والأداء منتظم يتوسط صفوف العرضة شاعر القصيدة ودائما ما تكون القصيدة الأولى حديثة الكتابة ومخصصة للعريس نفسه، بعد العرضة تدار مباخر العود من جديد ليتم توديع الضيوف بطريقة الاستقبال ذاتها.

بساطة في التكاليف

في سؤال لوالد العريس عن تكلفة الزواج أكد أنهم لا يقيمون زواجاتهم في منازلهم لتقليل التكلفة بقدر ما هو اعتزاز بالمكان وتسهيل مهمة الحضور للأهل والأصدقاء حيث يعيش أغلبهم في منطقة النفود الممتدة بين الجوف وحائل مؤكداً عدم وجود مقارنه بين زواج البادية وزواج المدينة لا من حيث التكاليف ولا العادات إذ يرى أن أغلب عادات زواج المدن هي دخيلة على المجتمع بغض النظر عن نوعها وقيمتها
يقول العم ناصر إنه لا شك في زواج البادية توفير كبير بحكم عدم وجود بعض الخدمات أصلاً مما يجبرنا على تنفيذ كثير من المهام بأنفسنا، فالنساء يتولين طبخ غداء وعشاء الحفل والصغار يتولون تقديم الضيافة من ماء وتمر وسمن وقهوة وغيرها ويقوم الأكبر منهم سناً بتجهيز سفرة الطعام، مؤكداً أن أدوات ساحة الرجال وساحة النساء من مفارش وغيرها يتم استئجار بعضها من المدينة وبعضها يتم الاستعانة به من الجيران الذين يقدمون كل ما لديهم من مستلزمات يستفاد منها في الحفل منذ علمهم بموعد الزواج.

ليلة مقمرة

ويوضح المواطن حمد خضير الشمري أحد وجهاء أهالي هجرة طناب أن أغلب المتزوجين يفضلون تحديد موعد زفافهم في إحدى الليالي المقمرة وأن أهل الحفل ينحرون فجر يوم الحفل جملا أو جملين وعددا من الخراف، وعن تمسكهم بما يسمونه (الصينية) أكد أنها باتت من أشكال الكرم ولا غنى عنها وكأن المناسبات لا تكتمل من دون تلك الصينية التي تكفي لحمل سنام الجمل بالكامل ناهيك عن المفاطيح التي تضيف لكرم البادية بعداً آخر.

بقي القول إن كان هناك من يقيمون حفلاتهم في فنادق الخمس نجوم فهنا يقيم أهل البادية احتفالاتهم تحت النجوم كلها.

الأكثر قراءة