الشريعة حذرت من اتباع الشهوات ومعاقرة السيئات

الشريعة حذرت من اتباع الشهوات ومعاقرة السيئات

[email protected]

ميَّز الله سبحانه الأمة الإسلامية على غيرها بأن جعلها أُمَّةً وسطاً، فشِرْعتها ومنهاجها في أعلى درجات الكمال، بما يبلغها حاجات الجسد والروح، ويحقق سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة. كما يبينه قول الله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً( (المائدة:3).
وهذا الكمال في الشريعة الإسلامية يحتم على أهلها أن يكون لهم التأثير الإيجابي في مسار الإنسانية، كما كان تأثير إمامهم وقدوتهم محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ولذلك المسلمون وَسَطٌ في الشريعة، فلم يجحدوا شرعه الناسخ لأجل شرعه المنسوخ، كما فعلت اليهود, ولا غيَّرُوا شيئاً من شرعه المحكم, ولا ابتدعوا شرعاً لم يأذن به الله, كما فعلت النصارى, ولا غَلَوا في الأنبياء والصالحين كغُلُوّ النصارى، ولا بخسوهم حقوقهم, كفعل اليهود، ولا جعلوا الخالق سبحانه متصفاً بخصائص المخلوق ونقائصه ومعايبه، من الفقر والبخل والعجز، كفعل اليهود, ولا المخلوق متصفاً بخصائص الخالق سبحانه, التي ليس كمثله فيها شيء، كفعل النصارى, ولم يستكبروا عن عبادته, كفعل اليهود, ولا أشركوا بعبادته أحداً, كفعل النصارى.
وأهل السُّنة والجماعة في الإسلام, كأهل الإسلام في أهل الملل.
فهم وسط في باب صفات الله ـ عز وجل ـ بين أهل الجحد والتعطيل, وبين أهل التشبيه والتمثيل, يَصِفُون الله بما وَصَفَ به نفسَه, وبما وَصَفَه به رُسُلُه, من غير تعطيل ولا تمثيل, إثباتاً لصفات الكمال, وتَنْزِيهاً له عن أن يكون له فيها أنداد أو أمثال, إثباتٌ بلا تمثيل, وتَنْزِيهٌ بلا تعطيل, كما قال تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ( رَدٌّ على الممثلة (وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ( رَدٌّ على المعطلة.
وهم وسط في باب أفعال الله ـ عز وجل ـ بين المعتزلة المكذبين للقدر, والجبرية النافين لحِكمة الله ورحمته وعدله, والمعارضين بالقَدَر أمرَ الله ونهيه وثوابه وعقابه.
وهم وسط في باب الوعد والوعيد بين الوعيدية الذين يقولون: بتخليد عصاة المسلمين في النار, وبين المرجئة الذين يجحدون بعض الوعيد, وما فَضَّلَ الله به الأبرار على الفُجَّار.
وهم وسط في أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم, بين الغالي في بعضهم, الذي يقول بإلهية أو نبوة أو عصمة بعضهم, والجافي فيهم, الذي يكفِّر بعضهم أو يفسِّقه وهم خيار هذه الأمة". انتهى.
ومن نظر في أحوال من أخطأ وضَلَّ السبيل من المسلمين يجد أنه إنما أُتِيَ من أحد هذين الطرفين, فإنَّ منهم من غلا وابتدع وترهبن وشدد على نفسه وجاء بأشياء من عنده, قال الله تعالى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ( (الشورى:21).
وحذر المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ من هذا المسلك فقال: "إياكم والغلو في الدين, فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين" رواه أحمد والنسائي وابن ماجة.
وهؤلاء تمادوا في هذا المسلك حتى حملهم على أن يجوروا في الأحكام على كل من لم يصاحبهم في غلوهم, فتجدهم يطلقون أحكام الكفر والابتداع والفسق على من ليس لها بأهل, بل ربما حملهم جورهم على استحلال ما حرمه الله من الدماء والأموال والأعراض, بحجة أنَّ مخالفهم كافر أو ضال!!.
وكانت نابتة هؤلاء إبَّان حياة النبي ـ صلى الله عليه وسلم, وحسبهم في الضلال أن يكون مقدَّمهم ذلك الرجل الشقي الذي اعترض على سيد الخلق ـ صلى الله عليه وسلم, كما يبينه حديث أبي سعيد في الصحيحين.
وفي الطرف الآخر: حذرت الشريعة من اتباع الشهوات ومعاقرة السيئات, فقال سبحانه: (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً( ( النساء : 27 ) .
والمعنى: يريد الذين يتبعون شهوات أنفسهم من أهل الباطل وطلاب الفواحش وغير ذلك مما حرمه الله (أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً( عن الحق, وعما أذِنَ الله لكم فيه, فتجوروا عن طاعته إلى معصيته, وتكونوا أمثالهم في اتباع شهوات أنفسكم, فيما حرم الله.
وقال سبحانه في سياق التحذير من الانسياق في سبيل أهل الانحراف: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً( (مريم: 59).
فهذه صفة هؤلاء القوم السوء, أنهم أضاعوا الصلاة, واتبعوا شهوات أنفسهم, مما حرم الله, وهم إذ أضاعوا الصلاة, فهم لما سواها من الواجبات أضيع, لأنها عماد الدين وقوامه وخير أعمال العباد, وأقبلوا على شهوات الدنيا وملاذها, ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها, فهؤلاء سيلقون غياً, أي خساراً يوم القيامة.
ومعلومٌ أنه ما من أمة تتمادى في تعاطي الفواحش والشهوات المحرمة إلا كان ذلك إيذاناً بهلاكها, فقد ثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "… لم تظهر الفاحشة في قوم قط, حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا" رواه ابن ماجة.
قال بعض السلف: الغلو في أعمال البر سيئة, والتقصير سيئة, فقال: الحسنة بين سيئتين .
وبهذا يعلم أيضاً ما ينبغي من التوازن بين هذين المسلكين.
ووِفْق هذا المنهج الرشيد, الذي يحذر الناس من خلاله من طرفي السوء تحفظ سفينة المجتمع ـ بإذن الله.
وهذه هي ميزة أُمَّة الإسلام, فإنها أمة وسط, كما وصفها الله في كتابه الكريم: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ( ( البقرة: 143) فهي أمة مختارة عادلة, اختارها الله على غيرها, ولهذا كانت شهادتها على سائر الأمم, وكان بذلك فضلها.
وفَّق الله الجميع لما فيه الخير, وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

الأكثر قراءة