"تبون غزل؟".. تفاصيل مغامرة شاعر شعبي في برنامج للشعر الفصيح!
سكنَ الليلُ .. والأماني عِذاب
وحنيني إلى الحبيبِ عذاب
كلما داعبَ الكرى جفنَ عيني
هزّني الشوقُ .. وأضناني الغياب
هكذا ابتدأت آمال ماهر في أداء أحد أجمل قصائد الشاعر محمد بن عبود العمودي بعد مقطوعة لحنية بالغة التجلي وذلك في الفقرة الأولى من برنامج أمير الشعراء، وحينها لم يكن هناك ما هو أكثر ملاءمة من ذلك الحضور النوعي في مسرح شاطئ الراحة وهو يقدم الشعر الفصيح كقيمة أدبية لو لم يكن لنا منها سوى استماع قصائد جميلة لكفانا ذلك ولو مؤقتا عن الحديث عن التفاصيل التي تدور حول هذا البرنامج.
القصيدة المغناة تقدم نفسها بطريقة مختلفة، ولهذا تأتي مسؤولية اختيارها لتكون مواكبة للتوجه المعلن من قبل منظمي هذه المسابقة والمتعلق بإثراء المشهد الثقافي – أو ليكن المشهد الفضائي إذا شئتم - بنماذج شعرية عالية القيمة، وبالتالي فاختيار آمال ماهر كان في مكانه كما أن اختيارها هي لذلك العمل كان في مكانه وزمانه المناسبين تماما، ولم يكن استنتاج ذلك أمراً بالغ الصعوبة فهو لم يكن يستلزم أكثر من النظر إلى تعابير الجمهور والشعراء وأعضاء لجنة التحكيم الذين حيدوا كل حواسهم النقدية وتحيزوا فقط لتذوق النص الأدبي ضمن تصوره اللحني الذي لم يسلب جماله كما يحدث عادة بل أضاف إليه أبعادا جديدة حملها ذلك الصوت بمهارة واضحة.
أدرك جيدا أنه ليس كل ما يغنى هو شعر بالضرورة، وربما أدرك البرنامج مجددا أهمية تقديم عمل نخبوي لجمهوره بعد أن شهد مسرحه من قبل تقديم أغنيات فصيحة ناضجة لأسماء عربية معروفة في الوسط الفني، فتوجه كهذا سيقنع أي متلق باحث عن الشعر الجميل أياً كان رأيه في البرنامج بينما قد يؤثر سلبا في المقابل أن يتضمن البرنامج في فقراته المصاحبة أي حضور غير لائق سواء كان ذلك على مستوى القصيدة أو الأغنية فهذا سيعبث غالبا بقناعات المشاهدين تجاه برنامج يتبنى على نحو حاسم أنه جاء للارتقاء بذوائقهم في مقابل قدر غير محدود من العبث الفضائي بالذوق العام فضلا عن ذوائقهم الخاصة.
ولأن الحديث عن الشعر الفصيح، ولأننا نتقبل بصدق كل ما يقترحه أي عمل مؤسس في تعزيز الإبداع الأدبي، فإن واجبنا أن نكون بالصدق نفسه في مواجهة كل ما من شأنه زعزعة شعورنا بذلك الإبداع، والأمر هنا لا يتطلب منا سوى تحديد مستوى ما نريده من قيمة جمالية وما نتطلع إليه من إضافة ثقافية.
انتهت "سكن الليل" – أو بعضها كما يبدو- ليصفق الجمهور مطولاَ إعجاباً بذلك النص وإيذانا بكسر الصمت المهيب الذي واكب استماعه، ليعود البرنامج إلى فقراته المعتادة مع الشعر، حيث كان التنافس محموما بين شعراء يحملون تجارب مهمة تمثلت في نصوصهم التي نجحت فعلا في كسب إعجاب الجميع.
مازلنا في السهرة ذاتها، شاطئ الراحة مزدحم فعلا بالصور الشعرية وبالبناء المتقن والإلقاء المميز للنصوص وهو لم يزل على الأرجح مزدحما أيضا بالفن الذي طرزت به "سكن الليل" جوانبه على مدى إنصات كامل، ولم يكن ذلك الجو مدركا تماما أن ثمة ما يمكن أن يكدر صفوه حتى أعلن مقدم البرنامج عن الفقرة التالية المرتقبة!
في فترة الفاصل سأسرد عليكم الحديث المعتاد عن اتفاق سلام مشترك بين الشعر الفصيح والعامي، وهو الاتفاق الذي ينسحب بموجبه العامي إلى ما وراء حدود اللغة الأم في حين يقيم الفصيح دولته المستقلة وعاصمتها المرجعية الثقافية، وعلى أية حال فهذا السلام العادل والشامل حالة مقنعة للطرفين وهي تكفل في أحد بنودها السماح بتقديم أحد الطرفين في محفل الآخر بشرط أن يكون عملاً لائقا يكرس وحدة الأدب والجمال ويلغي فوارق اللهجات والأشكال.. و.. عفوا انتهى الفاصل.
يعود مقدم البرنامج لجمهوره المتحفز، يتحدث لهم عن علاقة ما بين الشعر العامي والفصيح ليست هي حتما ما يشغله حينها بقدر ما يحاول من خلالها تمرير الفقرة القادمة المتمثلة بحضور شاعر شعبي على مسرح شاطئ الراحة، أمام جمهور أمير الشعراء، في حضرة عشاق الأدب الفصيح، في المكان نفسه الذي وقفت فيه آمال ماهر قبل قليل عندما سكن الليل وأسكن الحضور معه.
تراءى في مخيلتي حينها المشهد المعاكس لحضور شاعر نبطي في "أمير الشعراء" فعدت بالذاكرة إلى آخر حضور لشاعر فصيح في "شاعر المليون" وكان متمثلا حينها بحامل بيرق البرنامج الفصيح في نسخته الأولى الشاعر الإماراتي عبد الكريم معتوق والذي استطاع بمشاركته تلك، أن ينال إعجاب الجمهور ويخطف استحسان لجنة التحكيم، فأبدع في تمثيل نفسه وزملائه خير تمثيل أمام عشاق الشعر الشعبي العامي (النبطي) المحكي ليس مهما أيهم بالتحديد، المهم أنه أعجبهم جميعا!
حسناً، لنعد إلى فقرتنا المرتقبة، الشاعر هنا ليس خليل الشبرمي حامل البيرق وهذا يجعل مقاييس المقارنة تختلف قليلا لعدم التكافؤ - البيرقي- على الأقل، لكن ما نعرفه جميعا أن القادم إلينا شاعر له تجربته في شاعر المليون وأن وقوفه أمامنا سيمنحنا قدرا من الأدب والمتعة ولولا قيام هذا الاحتمال لما اختار البرنامج أن يقترحه علينا كما اقترح علينا قبل قليل مطربة شابة تغني نصاً أنيقا بصوت مترف الإمكانيات.
بدا أن الأمر يسير على نحو غير اعتيادي و بدأت المفاجآت مبكرا عندما اكتشفت أن الشخص الذي سيتحفنا هو ذاته الذي التقطته كاميرا البرنامج لحظة تصفيق الجمهور على "سكن الليل" وكان حينها يرسل قبلة على الهواء نحو المغنية تبعتها بابتسامة عريضة قبل أن يفاجأ لاحقا بالكاميرا التي تصوره .. وأقترح عليك عزيزي القارئ أن لا تشغل بالك بفرضية أن الشخص الذي على المسرح هو من يرسل القبلات – إذا استدعى الأمر – نحو الجمهور وليس العكس، أخبرتك في بداية هذه الفقرة أنك أمام وضع غير اعتيادي!
الشخص نفسه يقف أمام الجمهور، وهذه المرة لم يرسل أي قبلة لأنه على ما توقعت كان يحضّر لما هو أهم، رغم أن ملامحه اللا مبالية ووقفته غير الجادة لا يطمئنان أبدا، يتلعثم، يضحك بفوضوية، يرتبك على نحو هستيري، يرد على سؤال مقدم الحفل بإجابة مقفرة من أي جملة مفيدة يقرر في أثنائها أن ينقذ نفسه بالدخول مباشرة في القصيدة. ولا بأس في ذلك، فليكن الشعر أرحم ما يمكن لصاحبنا قوله!
عزيزي القارئ، دعك من علماء النفس، وخبراء لغة الجسد، واترك البرمجة اللغوية العصبية عنك جانباً، وصدقني عندما أقول لك أن ما يفعله بعض الشعراء الشعبيين أثناء إلقاء قصائدهم هو ضرب مختلف من الانفعال الإنساني العشوائي الذي لم ولن يجد له العلم تفسيرا مهما حاول استنطاق أعراضه واستكشاف مسبباته والبحث -عبثا- عن علاجه.
الشاعر أعلاه كان نموذجا مثاليا لكل من يفكر في كتابة بحث لدراسة تلك الظاهرة، مع العلم أن الأمر هنا يختلف عن حالة الهياط المعهودة، لأنك أمام شاعر يعتقد أنه أفضل من الشعر نفسه، وبناء عليه يعتقد أنه يمّن عليك بوقوفه أمامك، ما يعني له بالضرورة عدم المسؤولية عن احترامك أو إشعارك على الأقل بأهميتك لديه ولهذا فهو يبدو كما لو كان في استراحة وليس في شاطئ الراحة، دعك الآن من نوعية ما سيقدم من شعر وطريقة تقديمه له، هل مازلت تملك الرغبة في مشاهدته والاستماع له؟
ما لم تغير القناة، فسترى أن صاحبنا يبدأ في عرضه الهزلي المسمى مجازا "مشاركة شعرية في برنامج ثقافي" وأنت تقول في نفسك "أول مرة أشوف واحد يعصب ويبتسم في نفس اللحظة!"، يتعالى صراخه ونظراته الحادة مع استمرار القصيدة التي يسرد فيها أسماء عدة شعراء كبار قبل أن يخلص إلى أنه أفضل منهم جميعا، تنتهي القصيدة بعد أن عجز الحضور عن إحصاء المرات التي نسف فيها غترته في أثنائها، يتعالى تصفيق بعض الجمهور، ونظرات مستغربة من نقاد لجنة التحكيم الذين يبتسم بعضهم بطريقة "شر البلية"!!
ستسأل نفسك للمرة الألف لماذا ينسى بعض هؤلاء أنفسهم داخل قصيدة؟ لماذا يصرخون؟ لماذا يضحك أحدهم في أثناء قراءة بيته دون سبب؟ هل هو طريف لذلك الحد؟ إن كان كذلك: هل هو يسمعه لأول مرة؟
لماذا يأتي البيت الأخير دائما بنفس واحد وبشكل سريع جداً وكأنه يشعرك أنه حقيقة مفروغ منها ويفترض عليك أن تتنبأ بها دون أن تضطر إلى سماعها؟!
يواصل ذلك الشاعر الشعبي ما يفعله بعد أن تشبع من شعوره المتضخم جدا بأنه مليون شاعر وليس شاعر مليون، ينظر للجمهور بابتسامة عريضة، بالوقفة غير الجادة نفسها، يقول العبارة التاريخية التي ترددها الأجيال الشعرية كابرا عن كابر "هااااا.. تبون غزل؟!"
طبعا أنت كجمهور لا تملك أن تقول لا، لأنه أصلا لا يستشيرك ولكنه يخبرك بالطريقة التي سيعود بها مجددا لبعثرة ما تبقى فيك من قدرة على احتماله، كذلك ليجعلك تحسه باستمرارية فضله عليك بوقوفه العبقري أمامك على نحو يفترض عليك أن تقول له: طبعا يا سيدي أتشرف بسماع ما اقترفته عبقريتك في هذا الغرض الشعري المأسوف عليه من دونك!
يبدأ النص بالتقليدية ذاتها.. بالصور الفنية المنتحرة ذاتها، بالصراخ نفسه مع زيادة معدل عرض الابتسامة بما يتواءم مع كون القصيدة غزلية، ما يعني أنها مسؤولة عن عبثية التهويم وتوجيه القبلات في هواء العواطف المغلوبة على مراهقتها، ولهذا فشاعرنا لم يقصر في هذا الجانب وقدم لجمهوره الكريم – إن كان مازال كذلك بعد مشاهدته- وصفا تفصيليا محنطاً من فرط تقليديته للحبيبة المفترضة، وهنا تتجلى سطوة اقتراف الجسد داخل النص "غير الأدبي" دون أي مبرر غير المزيد من التمثيل بجسد الشعر والإساءة إلى قيمه، يتواصل الوصف متواكبا مع هيستيريا الإلقاء في ظل التعالي المتكئ على سطحية في كل شيء، وصل إلى بيت معين في الوصف، قال الصدر فقط وانفجر ضاحكا قبل أن يكمل العجز، وهنا دخلت مواصلة الاستماع في حكم الاستحالة، وغيرت القناة!
يكفي.. فعلا يكفي! تنازلت كمتلقي في البداية عن حقي في احترام الشاعر لي مراعاة فقط لمسألة كونه عاجزا عن احترام نفسه، تنازلت فيما بعد عن حقي في استماع عمل أدبي جميل، فيما بعد تخليت عن شرط الجمال، لم يبق لي غير شرط "الأدب" الذي لم يلبث صاحبنا أن أفرغه من معناه، ولم يترك لي حتى فرصة التفكير بين علاقة الأديب بالمؤدب حيث صدّقت وأمنت بعدم وجود أي منهما بأي شكل من الأشكال.
إذا افترضنا أن إفساد "سكون الليل" الغني بالشعر بهذه الضوضاء الفقيرة تماما منه، أمراً غير ذي أهمية بالنسبة للبرنامج، فلن نعتقد أنه كان مضطرا أبدا أن يضعنا أمام كل ذلك القدر من الامتهان تحت أي مسمى وضمن أي سبب، وإن كان استدعاء النموذج الشعبي أمراً مشروعا فهذا لا يبرر استدعاءه كيفما اتفق، ولاسيما وهو فن أدبي له تجلياته الراقية المبدعة التي يمكنها أن تقدم حضورا يوازي حضور معتوق الفصيح أمام جمهور الشعبي، وضعت فرضية أن تقديم شاعر على المسرح أمر يعتمد على جماهيرية هذا الشاعر، وجعلني ذلك أتأكد من رؤية فهيد العديم أن الجمهور أحيانا يصنع النموذج السيئ بناء على ذائقة تتسق مع هذا النموذج، جعلني ذلك أتأكد أن الصورة الذهنية التي تصور الشاعر الشعبي شخصا سطحي الثقافة مفرغ المضمون لم تكن لتكون لولا أنها ليست صورة ذهنية فقط بل هي واقع قائم فرضته بعض نماذج ذلك الشعر. لتتسع المشكلة ويرسخ التصور بمجرد وجود الآلة الإعلامية التي منحت لقنابل الدخان، تلك منابر تحتفي بهم وتضاعف فيهم حجم المقلب بأنفسهم، إلى درجة أنهم يقفون أمام جمهورهم دون الشعور حتى بأن هذا الجمهور صنعهم رغم كونهم لا شيء، الشيء الوحيد الذي يشعرون به حينها أنهم أكبر من الشعر.. أكثر من مجرد شخصيات شكلية عديمة الجوهر، هم ظواهر صوتية ليس إلا، مهمتها نسف غترها ملايين المرات تواكبا مع نسفها كل نظريات علم النفس بشأن السلوك الإنساني السوي في حالة إلقاء الشعر، ليس مهما نوعية القانون الذي يجب علينا استيعابه في هذه الحالة، المهم الآن هو .. "هل نبي غزل؟ والا ما نبي؟!"