أهمية التعوذ بالله من الفتن وسؤاله الثبات

أهمية التعوذ بالله من الفتن وسؤاله الثبات

ثبت في "صحيح مسلم" أنه، عليه الصلاة والسلام قال: "تعوَّذوا من الفتن ما ظَهَرَ منها وما بَطَن".
وفي "المسند" عن أمِّ سلمة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت: قلتُ: يا رسول الله، ألا تعلِّمني دعوةً أدعو بها لنفسي؟ قال: "بلى، قولي: اللهم ربَّ محمَّدٍ النبيِّ، اغفر لي ذنبي، وأَذهِبْ غيظ قلبي، وأَجِرْنِي من مُضِلات الفتن ما أحييتنا".
ومن الحسن أن نورد هنا الأبيات التي ذكرها الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ في "الجامع الصحيح"، التي كانوا يستحبون أن يتمثلوا بها عند الفتن، حيث قال البخاري ـ رحمه الله ـ في كتاب الفتن: باب الفتنة التي تموج كموج البحر، وقال ابن عيينة عن خَلَفِ بن حوشب: كانوا يستحبون أن يتمثلوا بهذه الأبيات عند الفتن ، قال امرؤ القيس :
الـحَرْبُ أوَّلُ ما تَكُـونُ فَتِـيَّة تسعى بِزِيـنَـِتها لِكُلِّ جَهُولِ
حَتَّى إذا اشتَعَلَت وشَبَّ ضِرَامُها ولَّتْ عَجُوزاً غيرَ ذاتِ حَلِيـلِ
شَمْطَاءَ يُـنْكَرُ لَونُـها وتغيَّـرَتْ مَكْـرُوهَة للشَّمِّ والتَّقْبِـيـلِ
قال الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله: جاء في رواية زيادة أنَّ خَلَفَاً كان يقول: ينبغي للناس أن يتعلموا هذه الأبيات في الفتن.
ثم قال الحافظ ابن حجر: والمراد بالتمثل بهذه الأبيات استحضار ما شاهدوه وسمعوه من حال الفتنة، فإنهم يتذكَّرون بإنشادها ذلك فيصدَّهم عن الدخول فيها؛ حتى لا يغترُّوا بظاهر أمرِها أولاً.
ومن قبله قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ في دلالة هذه الأبيات:
"وذلك أنَّ الفتن إنما يُعرف ما فيها من الشر إذا أدبرت، فأما إذا أقبلت فإنها تزين، ويظن أنَّ فيها خيراً، فإذا ذاق الناس ما فيها من الشر والمرارة والبلاء صار ذلك مُبَيِّناً لهم مضرَّتَها وواعظاً لهم أن يعودوا في مثلها".
وينبغي مع هذا أن يسأل العبد ربَّه سبحانه الهداية فيما اختُلف فيه، وأن يوفق للسداد، فإن الفتن تجعل الأمر مريجاً مختلطاً مشتبها، حتى تحتار العقول وتضيق النفوس.
ويوضح أهمية ذلك ما ثبت في "صحيح مسلم" عن عائشة أم المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ قالت: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا قام من الليل افتتح صلاته: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم".
فهذا سيد الخلق، المؤيد بالوحي، المعصوم من خطأ البلاغ، محمد صلى الله عليه وسلم، يتضرع إلى ربه يسأله السداد في الحق والهداية إليه، فما الظن بمن دونه؟!.
ومما يدل لهذا أيضاً: ما رواه البخاري ـ رحمه الله عن أم سلمة ـ رضي الله تعالى عنها ـ قالت: استيقظ النبي، صلى الله عليه وسلم فقال: "سبحان الله! ماذا أُنْزِلَ من الخزائن؟ وماذا أُنْزِلَ من الفتن؟ من يوقظ صَوَاحِبَ الحُجَرِ ـ يريد به أزواجَه ـ حتى يُصَلِّينَ رُبَّ كاسيةٍ في الدنيا عاريةٍ في الآخرة".
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "في الحديث: الندب إلى الدعاء والتضرع عند نزول الفتنة، ولا سيما في الليل؛ لرجاء وقت الإجابة؛ لتُكْشَف، أو يَسْلَم الدَّاعِي، ومَنْ دُعِيَ له".
ومن دعاء نبينا ـ محمد صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الباب: ما ثبت في "صحيح مسلم" عن ابن عباس، رضي الله عنهما، أنَّ رسول الله، صلى الله عليه كان يقول: "اللهم لك أسلَمْتُ، وبِكَ آمَنْتُ، وعليكَ توكَّلتُ، وإليكَ أنَبْتُ، وبِكَ خاصَمْتُ، اللهم إني أعوذُ بِعِزَّتِكَ، لا إله إلا أنتَ، أنْ تُضِلَّنِي، أنتَ الحيُّ الذي لا يموتُ، والجِنُّ والإِنْسُ يموتون".
وفي "صحيح مسلم" أيضاً عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: كان رسول الله يقول: "اللهم أَصلِح لي دِينِي الذي هو عِصْمَةُ أمري، وأَصلِح لي دُنيَايَ، التي فيها مَعَاشِي، وأَصلِح لي آخرتِي، التي فيها معادي، واجعل الحياةَ زيادةً لي في كلِّ خير، واجعلَ الموت راحةً لي من كُلِّ شَرٍّ".
لهذا كان من صفات الراسخين في العلم، الذين نوَّة الله بهم وأثنى عليهم وامتدح منهجهم، خاصةً في المشتبهات، أنهم ملازمون لدعاء الله أن يثبتهم، وذلك ما حكاه الله عنهم في كتابه: "رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ" (آل عمران:8).
قال ابن كثير، رحمه الله، عند قوله: "رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا" أي: لا تُمِلْها عن الهدى بعد إذ أَقَمتَها عليه، ولا تجعلنا كالذين في قلوبهم زيغٌ، الذين يتَّبعون ما تشابه من القرآن، ولكن ثَبِّتْنا على صراطك المستقيم ودِينِك القويم، "وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً" تثبِّتُ بها قلوبنا، وتجمع بها شَمْلَنا، وتزيدُنا بها إيماناً وإيقاناً "إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ".
ثم ساق ابنُ كثير بعض المرويات عند هذه الآية، منها ما رواه ابن أبي حاتم من طريق شَهْرِ بن حَوشَب، عن أُمِّ سَلَمَة، أنَّ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يقول: "يا مُقَلِّبَ القُلوبِ ثَبِّت قلبي على دِينِك" ثم قرأ: "رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ".
منها ما رواه ابن مردويه من طريق شهر بن حوشب، عن أم سلمة، عن أسماء بنت يزيد بن السَّكَن سَمِعَتْها تحدِّث أنَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يكثر من دعائه: "اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" قالت: قلت: يا رسول الله! وإنَّ القلب ليتقلب؟! قال: "نعم، ما خلق الله من بني آدم من بشر إلا إن قلبه بين أصبعين من أصابع الله عز وجل، فإن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه".
فنعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، ونسأله جلَّ وعلا ألا يزيغ قلوبَنا بعد إذ هدانا، ونسأله أن يَهَبَ لنا من لَدُنْهُ رحمةً، إنه هو الوهاب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

[email protected]

الأكثر قراءة