وان غاب تبقى طويل ذراع يا "ذكره".. يكفيه بعض الغلا بـ "قلوب خلانه"
المتهم الأول بعزلة وشيء من ابتعاد "محض الرغبة" في عالم الشعر والشعراء هو البدر بن عبد المحسن، عندما نتأمل هذا الأمر كثيرا نجد أن هذا الإحساس ولد لدى محبي الشعر ليس لأن "البدر" منعزل فعلا، وليس لأنه رغب أو لم يرغب في الابتعاد، بل لأنه تجربة مؤثرة وكبيرة قد لا تقيسها جغرافيا، يشتاق من ذاق شعره إلى جديد، بشكل قد يوحي بهذه العزلة.
من الشمال هضاب، ومن الجنوب وادي
وما بينهم كذبة .. القرية العذبة!
طين ونخل وقباب.. سورٍ بلا أبواب..
وأظن ميلادي ماله زمن وكتاب
لكن ولدت فــ يوم.. وولادتي صعبة!
من هنا كان ابتدأت الحكاية، وأنجبت وضحى "مهندس الكلمة"، ومن هنا وجب أن ننتبه إلى كلمة ثرية ستغير معالم "أدب تقليدي سائد"، كان البدر أول من تشجّع وأخرج الشعر من قوالبه التقليدية وأعاد هندستها لتلائم عصره، وأخذ بناصية الشعر، حين كتب البدر قصيدة "يطري عليه الوله" ترجمت للفرنسية وأوردها الناقد والبروفيسور الفرنسي رولان بارت في كتابه "شذرات من خطاب في العشق" وكتب عنها : "أتحرك كثيراً ضمن دائرة احتياط المكان العميق لأنه في الوقت الذي أتماها فيه بصدق مع تعاسة الآخرين، وأن ما أقرأه من تعاسة واقع من دوني، وبسبب هذه التعاسة الذاتية يهجرني الآخر إذا تألم دون أن أكون السبب، يعني أني لا أعتبر شيئا بالنسبة له:
كل ما شكا من عنا همه وغرباله
أقول : لعل به جرح من أسبابي
إذن وبشكل معكوس، طالما أن الآخر يتألم من دوني، فلماذا أتألم مكانه! تحمله تعاسته بعيداً عني، فلنفترق قليلاً ولنعش حياتنا:
ناديت دامك حزين وحالتك حاله
يكفيك همك وأنا بصبر على ما بي
هنا كان الفرنسي صاحب الثقافة واللغة الأجنبية، أكثر حرصا على التقاط معنى التجديد الذي تقدم به البدر إلى مجتمعه الثقافي آنذاك، أكثر دقة في نقل الجانب النفسي للقصيدة قبل النقل الشكلي للقوالب.
في بداية مسيرة البدر الشعرية كان "التحديث" هو الهاجس الذي يمكن أن يغري مسيرة مبتكرة، لذلك كان الاصطدام مع الوعي العام التقليدي بـ "القصيدة" ضروريا، فكتب "عطني المحبة" وانطلقت مسيرة القصيدة السعودية الحديثة بصوت القيثارة طلال مداح:
عطني المحبة..
عطني في ليل اليأس شمعة وبسمة نهار
عطني في ضياع العمر دمعة وسكة ودار
وأعطيك أمل في الحب غالي
يصعب على غدر الليالي
وأغلى الأماني عاشت في غربة
يا عمر ثاني عطني المحبة
كان التحديث في ضوء "الشمعة" أكبر من أن تحجبه تقليدية فكر أو شعر، حتى ولو كان هو الشائع في الوعي العام للقصيدة، إلا أن ضوءها استطاع الوصول إلى أبعد من ذلك، واستمر البدر بهذا النفس "المتعب" من التغيير إلى الأفضل – ويجزم الجميع أنه إلى أفضل حتى ولو لم يروه كذلك آنذاك- ويكتب ليغني القيثارة:
لو حبت النجمة نهر
طاحت على صدره سنا
إن مرت الغيمة قهر
وان هبت النسمة قهر
ولو رمى الطفل حجر
عكّر مواعيد الهنى
وبغض النظر عن متعة الخيال وهو يقرأ ويركب الصورة التي كتبها، هو فرض هيبة لم تكن موجودة آنذاك للأغنية السعودية وبشكل عربي، أصبحت مسموعة من غير السعوديين، لا يمكن أن تقاوم أغنية بها هذا الكم الكبير من الشعر!
"أنا أقرب للفانتازيا في رسمي وشعري" هكذا قالها في أحد لقاءاته الصحافية، وربما اقتنع هو بهذه الجملة ويرى نتاجه كذلك، كثيرون الآن لا يعتقدون بهذه الرؤية، ولو رأى أحدهم أن "أعلق الدنيا على مسمار مدقوق فيه جدار" من الفانتازيا المتطرفة، هناك جيل يرى أن هذا هو لب الشعر، الرؤية المختلفة، الاختلاف بصور ذهنية يمكن إعدادها بعد القراءة فقط، ومن مخيلة الشاعر "المبتكر" فقط.
"الناس تسمعني كثيرا وأنا أقول قصائدي، وسمعت آرائي، وأرسلوا لي امتنانهم.. لكنهم لم يسمعوني أقول: شكرا، فشكرا لهم"، يعبر عن امتنانه لحب الناس بطريقة مباشرة جدا لأنه حريص على إيصال هذه الفكرة لـ "الجميع"، إلا أن الناس قد لا يتفقون على امتنانهم لعطاء أحد ما في الخليج، كما امتنوا لعطاء هذا الرجل.
ولأنه فارق في الشعر المحكي، ولأن طابور المبدعين الذي يهمون بالرحيل بات يتقلص، ولأنه يستحق، لا تنتظروا أن يرحل لتكرموه، كرموه الآن واحرصوا على أن يصل إليه شكركم وعرفانكم لعطائه كل هذه السنين، لأنه الرجل الأول المؤثر في عالم الشعر في ذائقة جيل كامل، "ولو عرف قيمته الحقيقية في صدور محبيه.. لحاول بشتى الطرق أن يبقى معهم أبد الدهر"!
بدر بن عبد المحسن أكثر شاعر أحترمه، وهو الشاعر الوحيد الذي لا يغضبني أبداً أن أكون تلميذاً صغيراً له، أحس أنه أول أساتذتي و آخرهم.
الأمير عبد الرحمن بن مساعد
هكذا يا بدر الشاعر انتثرنا تحت مطر انسكابك أنت التدفق الطفولي من مزامير الفرح، أنت ذلك الإنسان الشامخ المتألق في حزن الإنسان فيك، نضمك في أصداء ما تهبه لحياة خفقنا من زلال شعرك، كأننا فيك يا بدر وكأنك فينا.
عبدالله الجفري
أنت أكبر بكثير من أكبر بكثير فماذا أفعل؟ نصف قصائدك كيف نحب والنصف الآخر علمتنا نحب كيف!
فهد عافت
بدر بن عبد المحسن "شاعر طويل" ينشر الحب! أجل فأنا أحسبه مكلفاً بإذاعة الحب بين الأحياء، حب القيم، حب الإخاء، حب الشعر، فهم ينفثه في الهواء يبثه في همس الماء.
د.فهد العرابي الحارثي