إذا كنت طفلا لا تقلق .. ستجد عملا!

إذا كنت طفلا لا تقلق .. ستجد عملا!

"الظلم في أي مكان يهدد العدالة في كل مكان"
داعية السلام الأمريكي مارتن لوثر كينج

تستحق ما أصبح يعرف باسم "عمالة الأطفال" أو child labor ذكورا وإناثا وقفة مستدامة، لأن القضية – الكارثة لا يبدو أنها ستقف عند حد، ولا تظهر في الأفق بارقة أمل من أجل احتوائها، رغم كل المحاولات والجهود الجبارة التي تقوم بها المنظمات الإنسانية، دولية كانت أم محلية. ولا أبالغ هنا إذا قلت: إن القضية تتفوق من حيث "كارثيتها"، على موضوع البطالة العالمية بشكل عام، والعربية بشكل خاص. فإذا كان هناك – حسب منظمة العمل العالمية – أكثر من 185 مليون عاطل عن العمل، فهناك ما يقرب من 250 مليون طفل بين الخامسة والرابعة عشرة يعملون حول العالم، من بينهم أكثر من 70 مليون طفل دون سن العاشرة، يعمل 120 مليونا من المجموع الكلي ساعات عمل كاملة. هذه هي الحقيقة القبيحة، والأقبح منها أن من يملك القرار العالمي يتعاطى معها بشكل موسمي، أو لنقل بشكل "إعلامي" أكثر من كونه عمليا. فلا يحتاج المتابع إلى جهد لكي يعرف أن الجهود المبذولة من أجل الحصول على أدنى سعر للنفط الخام، تفوق – من حيث زخمها - تلك التي تبذل من أجل الحد من عمل الأطفال. وليس عسيرا عليه معرفة أن التحركات لفرض عقوبات دولية على دولة مارقة هنا، وأخرى هناك، لا يمكن مقارنة سرعتها بالتحركات لوقف طفل عن العمل، وإرساله إلى المدرسة. وحتى الجهود التي تنفق للحفاظ على البيئة – رغم تواضعها – لا تزال تتقدم، تلك التي تبذل لتحديد أسباب تشغيل الأطفال، والعمل على وضع حلول لها.
إذاً.. القضية ربما من الدرجة العاشرة أو المائة، في أولويات هذا العالم. لكنها بالضرورة هي الأولى من حيث وقعها الكارثي على المجتمع الدولي، لأنها أكثر التصاقا بالمستقبل، وأعنف بعدا من الناحية الاجتماعية، وأبشع صورة لغد إشراقته – وإن حدثت – ستكون مظلمة. وتزداد القباحة عنفا، لأن الجميع يعرف هذه البدهيات، بل يؤمن بأنها تشكل كارثة آنية ومستقبلية، لكن – هذا الجميع – يظل أسير أولوياته، ولا سيما الجهات التي تملك القرار الدولي. إنني لا أزيح اللوم عن الجهات التي لا تملك هذا القرار، ولكن في القضايا الكبرى، يدان الكبير أولا، ويتهم ويدان الصغير بعد ذلك.
ولكيلا أعفي العالم العربي من هذه الجريمة، فلا بد من الإشارة إلى أن الكارثة أفدح في هذه المنطقة من العالم، ليس لفظاعة الفاجعة فقط، بل لعدم وجود إحصائيات وأرقام، يمكن أن تشكل منطلقا لأي حلول قد ينجح المجتمعان الدولي والمحلي في وضعها. بل هناك دول عربية لا تسمح بالاقتراب من هذه القضية، على اعتبار أنها تشكل إهانة لها – وربما تضعها ضمن نطاق الأمن الوطني - في الوقت الذي تعلن فيه المؤسسات الدولية عن أن الدول الصناعية المتقدمة نفسها، ليست محصنة من عمالة الأطفال. ومهما غابت الإحصائيات الرصينة لعمالة الأطفال في العالم العربي، فإن كل المؤشرات تدل على أن عدد هؤلاء يرتفع بصورة كبيرة، لأسباب معروفة، في مقدمتها: سوء معاملة الطفل، وجرائم العنف الأسري، والبطالة، وانخفاض متوسط دخل الفرد، وازدياد معدلات التسرب الدراسي، وتشغيل الطفل لتعويض الفاقد الاقتصادي عند شرائح معينة من الأسر. يضاف إلى ذلك غياب "قضية الطفل" وبصورة لافتة في غالبية الدول العربية، في مشاريع التنمية الاقتصادية. وبذلك نكون أمام كارثة تضاف إلى بقية الكوارث العربية الأخرى، إذا ما ضممنا إليها معدلات الأمية البالغة 30 في المائة من مجموع عدد السكان، طبعا هذا إلى جانب البطالة الفظيعة، التي تحظى بـ 9.1 في المائة من حجم البطالة العالمية.
مرة أخرى ينبغي ألا يتم التعامل مع التعاطي بهذه الذهنية الغريبة والمدمرة. إن الدول الأخرى تحاول أن تصل إلى حلول ما لها، دون مواربة أو خجل، وتحاول أيضا أن تحظى بالدعم المطلوب من الدول الكبرى – بصرف النظر عن موسمية التعاطي مع القضية برمتها - فالدول "الراشدة" توافق المنظمات الدولية التي جمعت لها أكثر من 2.5 مليون طفل يعملون فيها. وتضع المخططات للتقليل من هول الكارثة. وعلى بقية الدول أن تصب اهتمامها في قضية لا ترتبط بأفراد صغار مظلومين، بل بمستقبل مقبل. فطبقا لإحصائيات منظمة العمل الدولية التي تتخذ من جنيف مقرا لها، فإن أكثر من 22 ألف طفل يقتلون بسبب حوادث خلال عملهم سنويا. وهذا وحده يضيف حزنا للكارثة. وأن أكثر من 127 مليون طفل تحت سن الرابعة عشرة، يعملون في دول آسيا – بعض دول العالم العربي منها – . وأكثر من 48 مليون طفل يعملون في دول في القارة الإفريقية – أيضا العرب ليسوا بعيدين، تحت الشريحة العمرية نفسها. وبالعودة إلى الـ 250 مليون طفل يعملون حول العالم، فإن 8.4 مليون منهم يخضعون للعبودية العامة، وعبودية الدين، والدعارة، ويصل عدد الأطفال الذين يقعون ضحية عمليات الاتجار بالبشر أكثر من 1.2 مليون طفل. وزيادة في التفاصيل، فإن 70 في المائة من الأطفال يعملون في قطاع الزراعة والصيد التجاري وصيد السمك، و8 في المائة يعملون في الصناعة، و8 في المائة يعملون في المحال التجارية والمطاعم والفنادق، و7 في المائة يعملون شغالين في المنازل.
أمام هذه الأرقام والتفاصيل، هل يمكن أن أتهم بالمبالغة، بإطلاقي وصف الفاجعة على هذه القضية؟. أجزم بأن لا مبالغة هنا، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالمستقبل. فالتهاون مع استحقاقات الغد، لن يؤدي إلا إلى مزيد من المصائب.. لا المصاعب، وإلى مزيد من الكوارث الاقتصادية والاجتماعية.. لا الأزمات. إنها فاجعة تتطلب مواجهتها ليس فقط بإجراءات تصون الطفولة، ولا قوانين تردع مشغلي الأطفال، ولا محاولات تحسين الوضع المعيشي للمجتمعات الفقيرة، ولا بخطط لقهر الأمية، ولا بلوائح التثقيف الاجتماعي. بل توجب جهودا، لا تقل مستوى عن طهارة الأخلاق، وتحركا لا يقل زخما عن التحركات الدولية لخفض سعر النفط الخام، وقانونا صارما ليس أدنى من قوانين مكافحة الإرهاب. فالإرهاب الحالي سيأتي يوما ويذهب إلى غير رجعة، لكن الأيام المقبلة ستأتي ومعها الفاجعة أشد روعا، وأبلغ أسى، وأمضى حزنا، إذا بقيت الطفولة في سوق العمالة.

[email protected]

الأكثر قراءة