إن أعياك السؤال ولم تجد إجابة فقل : "وللشعراء فيما يكتبون مذاهبُ"
ربما تبدو إعادة صياغة سؤال : لماذا تكتب؟ لا تعدو أكثر من استعادة لغة جدلية وسؤال دائري أشبة بمعضلة أيهما أولاً البيضة ام الدجاجة, كثيرون أجابوا على السؤال وكلٌ يدلي ويبرر ذلك بلغةٍ مبتكرة, ربما لصعوبة السؤال ينبري أصحاب الحرفة للإجابة عنه, فالشاعر البحريني قاسم حداد يكتب لأن الكتابة امتياز خاص يحسده عليه الملوك, فيما كان الروائي جابريل ماركيز بسيطاً وعميقاً في رؤيته فهو يكتب لينال المزيد من حب أصدقاءه كما يقول,أما الشاعر التونسي محمد السائحي فيبرر لجوءه للقصيدة بقوله : ( أكتب القصيدة لأريح ضميري ولأمد جسراً بيني وبين الناس), أما عبدالوهاب البياتي فيختصر ذلك بأنه يكتب كي لا يموت, فيما الراحل محمود درويش يكتب لأنه بلا وطن ولا هوية ولا حب ولا حرية, وكأن الكتابة طريقة بحث وجداني بديل أو دليل على شيء مفقود. وهنا لن نعيد السؤال أو نستدرج اللغة للبحث عن إجابة أو حيلة مبتكرة لنبرر ارتكاب فعل الكتابة, لكننا سنبحث بين أوراق الشعراء المحكيين لنظفر بإجابة صادقة , ونقول صادقة لأنها أتت بريئة منسابة تحت وطأة قلق شعر, وليس لإشباع نهم سؤال أرعن, فهي تأتي ليس تبريراً لذنب غواية الحرف.
ربما لأن الشاعر دوماً مهووس بالكشف والابتكار لا بالتبرير, فالمنطق والعقل علم آخر لا يحبذ الشعراء خوض غماره , وبالطبع فهو أيضاً لا يستسيغ رؤاهم المتلبسة دوماً بالخيال, فهنا تتبين علاقة الشاعر بالكتابة/القصيدة, فما بين شاعرٌ يأتي لها هارباً وتكون ملجأه الوحيد, يناجيها وينادمها,وآخر يأتيها بخوف وحذر, فيما آخر ينظر لها على أنها شمعة يضيئها ليبدد شيئاً من ظلام وحشته ووحدته, وقد يمتد الأمر عند آخرين فيفرغ فيها ولها عتبه وتعبه, وقد تكون هروبا من الهم فينغمس في تدليلها حتى تكون هي الهم. وقد ينظر الشاعر لكتابة القصيدة على أنها (قدر) وهي نتاج (لوعة) وقلق وانكسار قلب وكأن مدادها دم ألم كما يراها الشاعر المشاكس علي السبعان:
حكمة الله..تنبت اللوعة قصايد
كلّما قلب انكسر ..تولد قصيدة!
فهل فعلاً الكتابة هي نتاج انكسار مؤلم, وأن الانكسار قد يُنبت وردة رغم انكسار الغصن, ربما لأن الساقي هنا مكتظ بدماء الوريد, فالقصيدة/الكتابة هنا أشبه بطائر الفيتيق ولو بفكرة أُخرى يحترق قلب فتولد قصيدة,بيد أن القلب لن يمت!
فيما يلجاً الشاعر أحيانا للكتابة لأنه رأى أن المدى أضيق بكثير من ورقة, فيتوجه لها منادياً, فيراها أقرب من الكل ويستند عليها كعكّاز يداري خُطى مرتبكة ومتعبة, وضوءاً يستمد من رائحة البقاء كما رآها فهد عافت ذات بوح شفّاف:
قصيدتي لا غدى ضيي
شحيح وارتبكت يديني
وتعثرت فيني خطاويي
ولاعاد رأيي يقديني
وبعد أن فقد الرأي نشد بها الرؤية وهي الدليل بدروب القلق, فيصارحها كعاشق يعيد كلمة أحبك على مسامع حبيبته للمرة الألف لكنها بدهشة المرة الأولى:
أما افزعي وارحمي غيي
وإلا ترى الناس مقديني!
وفهد لا يستجدي الشعر قط وإن بدا هنا عاشقاً بين يدي قصيدته, إلا أنه دوماً ينظر للشعر باحترام, فلا الشعر سيده, ولا هو عبد للشعر, رغم أن العلاقة بينهما بها من السمو ما يصل لدرجة الصداقة الوارفة:
يا علي للشعر عبدي ولا هو سيدي
صاحبي له من جنوني ولي من منطقه
هنا يبدو فعل الكتابة أكثر حميمية, وتعاطيا جميلا بين أصدقاء دون (مصلحة) ما, فلا أحد يختار الصديق ليكون بديلاً عن الموت مثلا!
والشاعر الجميل سعد الحريّص يأتي هارباً من هواجيسه, وكأن الكتابة ثوثّق وتصفد قلقٌ سرمدي متّقد لا تطفئ جذوته إلا سفكه شعراً:
جيت هارب تطاردني الهجوس
وكل شيء جميلٍ كبني
فالهروب هُنا للبوح منطقياً في ظل انحسار الجمال ونفوره وكأنه يستعيد الجمال بالكتابة وهو من القادرين على ذلك دوماً, فلهذا يمارس الشاعر تعريا مُباحا تحت خيمة اللغة, والشعر تحديداً يمنحك جرأة قول مالا تستطيع قوله نثراً,ومع الحريص تبرز الكتابة ملجأه عن مطاردة الهواجيس ليس بعرض الاختفاء عنها وإنما ليعقدا الصلح في الكتابة, فيما يأتي الشاعر والروائي الكبير عواض العصيمي, وهو الممسك دوماً بناصية الحرف والسرد , يأتي ليس مبرراً بقدر ما هو إصرار على فلسفة علاقته الممتدة بالحرف:
كان الكتابة زلل..والعذر ميقافي
في مستريح الورق ما ولله أطيعه
وكان الكتابة بلد ميلاف وسنافي
عز الله إن الزمن خانت مطاليعه
فيما تتشكل (ملامح وجه طفلٍ فالقرى غاب) ليتشكّل الحميدي الثقفي إلى كائن آخر:
صار إصبعي ريشه
صار القلم فرد!
ومشرّد حروفي
ترعي مضارب جرد
بعض القصايد غذا
وبعض القصايد سم
والبعض الآخر كذا:
(صرخة بليّا فم)!
فالكتابة غذاء حتى وإن نفثت من السموم ما بها وما عليها, وربما هي فم آخر لصرخة أبت أن تبرح خروجاً معتاداً,فتأتي الكتابة ليتُنبت من الجرد ورد, والغذا قصيدة فاخرة, والسم يتشكل فكرةٌ نافرة!
واغتراب الشوق قضية تهييء لحظة وارفة للكتابة, فيهدّ الكاتب بها تعبة, قبل أن يكتشف أن التعب هو ارتكابها وابتكارها, كما أوضحها مهدي بن سعيد:
ياقصيدي طوّل الشوق اغترابه
ماشهد قافك على همي وغمي
جيت أفرجّ بعض همي بالكتابة
اكتشفت أن الكتابة كل همي!
فأي متلازمة هُنا وكأن الذاكرة تستحضر صورة (عبدالمعين ) من التراث وتبرزها بسياق جديد, ومهدي لم ينشد راحة حتى وإن بدأت المعادلة مخيفة, فالفرج أتى بهم جديد, وهذا ربما يكون بخلاف ما يراه الشاعر مشعل الفوازي إذ يبدد بالكتابة ظلاما ويستقبل بها إطلالة فرحة, ويجد فيها الأمان:
الشعر لا استحكم ظلام الدياجير
إطلالته فرحه..وأمان ..ومصابيح
عنّيت له من عقد في جيدها الخير
صفرا..ماشد عنانها (زين تصفيح)!
فمشعل يكتبها قبساً , ويحبها لحظة الكتابة جامحة ويبدو عاشقاً واثقاً من إخلاص محبوبته/القصيدة وليس ساجداً في محرابها متوسلاً منها صفحاً,وهذا مخالفاً لرؤية المبدع نايف صقر الذي تجتمع لديه حالة الشقاء والحب والخوف في آن واحد:
بيني وبين اللي يغنون به فرق
لأني أشقى به وأحبه وأخافه
وهذي الوصفة الثلاثية وكأنها وصية لمن أراد أن يرتكب هم الكتابة , فتشقى وتخاف لكن بحب ,ويبقى السؤال معلقاً حتى لو أزعجتنا صيغته البدائية.