الإنتاجية والنمو الاقتصادي في السعودية .. هل من علاقة؟
تعد إنتاجية عناصر الإنتاج الرئيسة (العمل ورأس المال والموارد الطبيعية والإدارة) العنصر الرئيس والدافع الأول لتحقيق النمو الاقتصادي حسبما أجمع عليه معظم علماء الاقتصاد من نظريات أثبتتها الدراسات العلمية والإحصائية. فالدول التي استطاعت تحقيق معدلات نمو اقتصادي بشكل متواصل ومستدام استندت في ذلك واعتمدت إلى تحسين إنتاجيتها, خاصة إنتاجية عنصر العمل، فأولت هذا العنصر الاهتمام والرعاية تعليما وتدريبا، وأنفقت الأموال لإعداده وتأهيله لخوض غمار العمل والإنتاج بكفاءة في القطاعات كافة. وفي الدول المتقدمة، خاصة أمريكا، أثبتت الدراسات الاقتصادية أن تحسن الإنتاجية هو العامل الأهم في تحقيق النمو الاقتصادي مع استمرار ارتفاع الأجور وتكاليف الإنتاج بصورة قياسية.
إذاً الإنتاجية عنصر ودافع رئيس لتحقيق التنمية لا خلاف في ذلك, فما وضع هذه الإنتاجية في السعودية؟ وهل استطاعت المملكة أن تحقق تقدما في هذا المجال؟
للإجابة عن السؤال سيتم احتساب الإنتاجية لعنصر العمل والاستثمار (التكوين الرأسمالي الثابت) من خلال قسمة قيمة الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الثابتة على حجم القوة العاملة، وعلى قيمة التكوين الرأسمالي الثابت بالأسعار الثابتة، وذلك لعدد من السنوات المختارة ومن خلال الاستعانة بالبيانات الإحصائية الرسمية المنشورة في هذا المجال. وأدرجت نتائج عملية الاحتساب في الجدول المرفق.
النتائج التي يفصح عنها الجدول المرفق عديدة ويمكن تلخيصها فيما يلي:
1- تراجع مستويات الإنتاجية للعاملين خلال العقود الماضية وإن كان قد طرأ تحسن طفيف في عام 2007 (بياناته ما زالت أولية وغير نهائية حسب المصادر التي احتسب منها).
2- تراجع معدلات إنتاجية الاستثمار خاصة في عام 2007, حيث انخفضت قيمة هذه الإنتاجية إلى 4.6 ريال لكل ريال ينفق على الاستثمار مقارنة بـ 5.1 ريال عام 1985.
3- عدم وجود علاقة بين الإنتاجية بنوعيها: إنتاجية العاملين والاستثمار والنمو في الناتج المحلي (النمو الاقتصادي)، وهو الأمر الذي يعني أن النمو تحقق نتيجة تزايد حجم وكمية الاستثمار وعدد الأيدي العاملة وليس تحسن الإنتاجية لكل من هذين العنصرين المهمين.
قد تشكل النتائج التي أفصح عنها البيانات في الجدول أعلاه صدمة للبعض، وقد تطرح تساؤلات عن دلالات هذه النتائج وانعكاساتها على مستقبل النمو الاقتصادي وطبيعة القوى الكامنة وراءه إذا ما أريد تحقيق تنمية اقتصادية مستدامة.
وقبل الاستطراد في هذا الموضوع لا بد أن نشير إلى أن هذه النتائج لا تشكل استثناء بالنسبة إلى دول الخليج وللدول العربية, عموما أشار عديد من الدراسات الصادرة عن جهات دولية يعتد بها إلى أن مستويات الإنتاجية في منطقة الخليج تتسم بالتواضع أو التدني مقارنة بمناطق أخرى في العالم. وفي هذا الصدد يمكن أن نشير إلى دراسة حول منطقة الخليج صدرت عن مؤسسة "الكونفرنس بورد"، وهي منظمة للأبحاث والأعمال العالمية، بالتعاون مع "مؤسسة الخليج للاستثمار", إذ تظهر الدراسة أن معدل الإنتاجية في الساعة الواحدة قد تراجع نسبياً بمعدل 0.2 في المائة في دول مجلس التعاون الخليجي بين عامي 2000 و2007 ، وذلك بعد استثناء قطاع النفط والغاز, كما ارتفع معدل الإنتاج بالساعة (مع احتساب قطاع النفط والغاز) منذ عام 2000 بنسبة بلغت 1 في المائة سنوياً، وهو أدنى مما حققته الهند 4.9 في المائة, الصين 10.5 في المائة، وحتى الولايات المتحدة 1.4 في المائة), وأوروبا 1.5 في المائة.
ويمكن في واقع الأمر تفسير تدني إنتاجية القوة العاملة في المملكة وبقية دول الخليج بعوامل عديدة أهمها:
1- ارتفاع معدلات الالتحاق بسوق العمل بالنسبة للمواطنين, التي بلغت للمملكة عام 2007 نحو 5.6 في المائة نتيجة ارتفاع معدلات النمو السكاني، وارتفاع نسبة السكان من الشباب إلى إجمالي عدد السكان.
2 ـ عدم مواءمة مخرجات التعليم مع الاحتياجات الاقتصادية للمملكة وضعف مؤهلات هذه المخرجات بالنسبة للأيدي العاملة المواطنة.
3 ـ فيما يتعلق بالأيدي العاملة غير المواطنة, فعلى الرغم من تزايد معدلات نموها في المملكة وعدد من دول الخليج، إلا أن معظمها من العمالة المنزلية وغير الماهرة التي تأتي إلى دول المنطقة ليعاد تأهيلها لتصبح قادرة على العمل والإنتاج حتى أصبحت مقولة "دول الخليج أكبر مكان للتدريب في العالم" أقرب ما تكون إلى الحقيقية.
أما تراجع إنتاجية الاستثمار فيعزى إلى عوامل عديدة أهمها:
1- سيطرة الاستثمار في الأصول غير المنتجة كالعقار على حجم الاستثمار أو التكوين الرأسمالي, حيث وظفت السيولة العالية التي تتمتع بها المملكة وبقية دول المنطقة خلال العقود الماضية عموما والسنوات الأخيرة خصوصا في الاستثمار في الأسهم والعقارات، فيما توجه معظم الاستثمارات الأجنبية إلى قطاع النفط والغاز, إضافة إلى العقار.
2- عدم وجود سياسة استثمارية واضحة المعالم تعمل على تهيئة الظروف المناسبة لحفز واستقطاب الاستثمارات المنتجة في القطاعات السلعية والخدمية.
إن ما تقوله لنا الإحصاءات السابقة يشكل تحذيرا حقيقيا لصناع القرار الاقتصادي بأن الاستمرار في الاعتماد على الموارد النفطية لم يعد مقبولا لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية بمفهومها الشامل، وأنه حان الوقت للعمل على تحسين مقدرة الاقتصاد على الاستغلال الأمثل للموارد الاقتصادية المتاحة, خاصة البشرية منها, للعمل على تنويع اقتصاد المملكة والابتعاد قدر المستطاع عن النفط كمورد رئيس وعامل رئيس لتحقيق النمو والتنمية الاقتصادية.
يجب ألا نركن إلى المعدلات القوية التي يتم تحقيقها في مجال النمو الاقتصادي، فهي معدلات خادعة من حيث دلالاتها بالنسبة إلى تحقيق تنمية مستدامة طويلة الأجل، فهذه المعدلات تحققت نتيجة الارتفاع الكبير في أسعار النفط والاستثمار في الأصول غير المنتجة، وبالتالي إذا أريد العمل على تحفيز مكامن النمو الاقتصادي القابلة للاستمرار فلا بد من العمل على تحسين الإنتاجية لعنصري الإنتاج الرئيسيين العمل والاستثمار (التكوين الرأسمالي الثابت)، من خلال "إيجاد فرص عمل جديدة ذات إنتاجية جيدة تهدف إلى بناء أساس متين يمكن الاعتماد عليه في تحقيق التوسع الاقتصادي مستقبلاً" حسبما ورد في الدراسة التي أشرنا إليها سابقا.
ولتحقيق ذلك لا بد من الاستناد إلى استراتيجية اقتصادية عامة تقوم على:
1 ـ إعادة نظر شاملة للسياسات التعليمية لتصبح أكثر انسجاما ومواءمة مع متطلبات المرحلة الراهنة ومع متطلبات سوق العمل، كما أنها – المواءمة - يجب أن تبدأ من المراحل التعليمية الأولى، فالمسألة قبل وبعد كل شيء، مسألة سلوكية تتعلق بالتربية والتعليم منذ الصغر لغرس حب العمل والمثابرة وبذل الجهد، والقدرة على العمل والإبداع في نفس المواطن ليكون مؤهلا بعد تخرجه في أي مرحلة من مراحل التعليم للالتحاق بالعمل في القطاع الخاص.
2 ـ الاستمرار بخطوات متسارعة وغير مترددة في اتباع السياسات الاقتصادية المتحررة وتعزيز درجة انفتاح السياسات المالية والنقدية لتصبح أكثر ملاءمة لتحفيز التنمية الاقتصادية من خلال الاعتماد بدرجة أكبر على القطاع الخاص في قيادة مسيرة التنمية الاقتصادية.
3 ـ الإسراع في تنفيذ برامج التخصيص الاقتصادية، فتخصيص المشاريع العامة الكبيرة والعملاقة في جميع المجالات والقطاعات سيوفر قدرا واسعا من الفرص المناسبة لتحفيز الاستثمار المحلي والأجنبي في مشاريع حقيقية تخدم الاقتصاد بما توفره من فرص لتحسين أداء مثل هذه المشاريع تحت إدارة القطاع الخاص وإمكانية تحسين وتعزيز فرص استخدامها لتقنيات الإنتاج الحديثة بعيدا عن البيروقراطية الحكومية التي عادة ما تعيق تقدمها ونموها.
4 ـ تطوير دور الأسواق المالية في جذب الأموال والاستثمارات المحلية والأجنبية من خلال توسيع وتنويع القاعدة الرأسمالية لهذه السواق وتنويع أدواتها الاستثمارية بما يسهل عملية استيعاب قسم من الأموال الموظفة في هذه الأسواق ما يوفر تمويلا إضافية من مصادر تمويل النمو الاقتصادي الحقيقي.
5 ـ إزالة كل العوائق والصعوبات التي تواجه المستثمرين والتي تتعلق بالإجراءات الروتينية والبيروقراطية المتشددة التي تحبط من عزيمة المستثمر وتثبطه عن الإقبال على الاستثمار بعزيمة قوية غير مترددة.
خبير اقتصادي
[email protected]